بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ملخص لـ(دروس في التفسير) التي ألقاها الشيخ صالح بن عبدالله
العصيمي حفظه الله تعالى في المسجد النبوي في رمضان سنة 1432 في خمسة مجالس
واستخلصت هذه الفوائد من ثلاثة مجالس منها وهي: مجلسين في (كيفية تلقي علم التفسير)
ومجلس في (بناء ملكة المفسر), لتعم به الفائدة, راجيًا بذلك الأجر والثواب من الله
سبحانه وتعالى.
وهذا جلّه من كلام الشيخ وفقه الله ولم أزد إلا حروفا يسيره لوصل الكلام.
ووراء هذه الفوائد فوائد أُخر لا يستغني عنها طالبُ علم, فيراجع في أصوله المسموعة الموجودة في موقع الشيخ المعروف باسم (برنامج الدعوة والإرشاد) .
وهذا جلّه من كلام الشيخ وفقه الله ولم أزد إلا حروفا يسيره لوصل الكلام.
ووراء هذه الفوائد فوائد أُخر لا يستغني عنها طالبُ علم, فيراجع في أصوله المسموعة الموجودة في موقع الشيخ المعروف باسم (برنامج الدعوة والإرشاد) .
-----------------------------------------------------
ملخص ( كيفية تلقي التفسير )
قال الشيخ حفظه الله تعالى:
...إذا تقرر مقامُ علم التفسير وعِظمُ جلالته فينبغي أن يعلمُ المرءُ بعدُ أن كل مغلوقٍ له طريقٌ يوصل إليه, وهذه قاعدةٌ أجمعت عليها الأمم قاطبةً, فمن أراد شيئاً من الأمور الحسيّة أو المعنويّة فلابد أن يسلك طريقاً يفضي به إليه وجادةً تدلُّ عليه, ولما كان العلم مطلوباً معنويً فإن له جادةً توصل إلى كلِ فنٍّ ويشهدُ لذلك ما رواه مسلم بنُ الحجاج في ((صحيحه)) من حديث سليمان الأعمش عن أبي صالح الزيات عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فذكر حديثاً وفيه: <<ومن سلك طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة>>.
وكما أن الجنة لها طرقٌ توصل إليها وهي الأعمالُ الصالحة, والاعتقادات الكاملة, فكذلك كلٌ فنٍّ من الفنون له طريقٌ يوصل إليه, ويقال حينئذٍ: إن معرفة تفسير الله سبحانه وتعالى لها طريقٌ توصلُ إليها وتفضي سالكها من الإحاطة بعلم التفسير.
ولا يمكن أن يتلقى علم التفسير بدون شيخ. فعند أبي داود من حديث الأعمش عن عبدالله بن عبدالله, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:<< تسمعون ويُسمع منكم ويسمعُ ممن سمع منكم>>. وإسنادهُ قوي.
وهذا الحديث حُجةٌ أن كلَّ علم من العلوم لا يؤخذُ إلا بالتلقي.
ويعلمُ أيضاً أن من الغلط من يظنُ أن علم التفسير يؤخذُ بالقراءة المجردة بكتب التفسير, لأن التفسير ليست معادلات رياضيةٍ تحفظ وإنما هو علمٌ يَجمعُ بين إدراك جُملٍ من الأصول والقواعد مع صفاء النفوس وصلاحية القلوب= فعند ذلك يحاطُ بالتفسير.
محل هذا المقام وهو من الأمور الحقيقة بأن تستفتح بها مجالس التفسير: الإرشادُ إلى مراتب ومنازلِ تلقيّ علم التفسير. وإنما خفيَّ الإرشاد إلى هذه المراتب لعزةِ علم التفسير في الأمة, فإن علم التفسير في الأمة منذُ القديم قليلٌ .
فإنه علمٌ يحتاج إلى آلةٍ عظيمة وعلومٍ متعددة, ولكن من أخذ هذه الطريق على وجهٍ صحيح مع دوام الإلحاح وسؤال الله عز وجل أن يفتح له, فإنه يحيطُ علماً بتفسير كتاب الله سبحانه وتعالى.
ففاتحة المراتب: دارسةُ كليات التفسير في الألفاظ.
ومعنى كليات التفسير في الألفاظ: الكلمات القرآنية التي يطردُ معناها في القرآن الكريم.
فإن كليات التفسير نوعان:
أحدُهما: كلياتٌ المباني. وهي التي ذكرنا لك والإحاطةُ بها ممكنةٌ لعموم الخلق.
والآخر: كلياتٌ المعاني. وهي المستفادةُ من الاستخراج التام لأساليب القرآن الكريم.
وقل من أشار إلى هذا النوع أو أشاد به إلا نفراً يسيراً في الأمة ممن له مكنةٌ في علم التفسير كأبي العباس ابن تيمية الحفيد وتلميذه ابن القيم والشاطبي في مواضع متفرقةٍ من كتاب الموافقات.
وهذه الكليات التفسير هي غيرُ كليات القرآن, ومن الناس من يَخلطُ بينهما.
وأما كليات القرآن: فهي المعاني المُبيّنة في القرآن أنها عامة كُليّة.
والمتنُ المرشح: ((حسنُ البيان في نظم مُشتركات القرآن)) للعلامة عبدالهادي بن رضوان الأبياريّ الأزهريّ رحمه الله تعالى.
وهذا المتنُ يفتقدُ إلى الشروح والحواشي عليه سوى حاشيةٍ للمصنف نفسِهِ, نشرت في ضمن كتابه ((المواكب العليّة على الكواكب الذرية في الضوابط العلمية)) وهو كتابٌ عظيم في مجلدين.
أما المرتبةُ الثانية: دراسة غريبِ القرآن.
ومعنى غريب القرآن: الألفاظُ التي تخفى معانيها لقلّة استعمالها.
وهذا الفنُّ من العلوم المحتاج إليها في تفسير كلام الله عز وجل لا يتعلق بكلِّ كلمةٍ في القرآن, وإنما يتعلقُ في الكلمات التي يقلُّ دورانها ويخفى معانها على عموم الناس.
وفائدته: اكتمالُ فهم مراد القرآن.
والمتنُ المعتمدُ أصلاً في درايته هو كتابُ ((تحفتُ الأريب فيما القرآن من الغريب)) للعلامة محمد بن يوسف الأندلسي, المعروف بأبي حيان الأندلسي.
وهذا الكتابُ ليس عليه شرحٌ ولا حاشيةٌ مُتداولة, لكن يوجدُ تسجيلٌ لشيخ عبدالرحمن عُوف كوني في التعليق على هذا الكتاب.
أما المرتبة الثالثة: فهي دراسةُ كلمات القرآن.
والمراد بكلمات القرآن: الألفاظ القرآنية عامةً.
والفرقُ بينها وبين الغريب: أن الغريب يختصُ بالمنفرد القليل الدوران على اللسان, أما كلمات القرآن فإنها تشمل الغريب وغيره.
والفرقُ بين هذه المنزلة وبين تفسير القرآن: أن هذه المنزلة يستجلي فيها المُتلقي معاني مفردات القرآن, بخلاف التفسير الذي يستجلي به المعاني الكليّة دون المفردات.
وفائدته: الإطلاعُ على معاني الكلمات القرآنية.
والمتنُ المعتمدُ أصلاً في درايته كتاب ((كلماتُ القرآن توضيحٌ وبيان)) للعلامة حسنين بنُ محمد مخلوف المالكي الأزهري رحمه الله تعالى.
ووقعت فيه مواضعُ احتيج فيها إلى التعقب, صنف في الإشارة إليها أحدُ المعاصرين كتابٌ اسمه ((التعقُبات المفيدة على كتاب كلمات القرآن)) فيستفادُ بضمه إليه.
وهذا الكتابُ ليس عليه شيءٌ من الشروح والحواشي, وهو حقيقٌ بذلك كالكتابين السابقين, وفقدانُ الشروح والحواشي عليه وعلى ما مضى فيه أعظمُ إعلامٍ بأن علم التفسير في الأمةِ قليلٌ وعزيز.
وأما المرتبةُ الرابعة فهي: دراسةُ الوجوه والنظائر القرآنية.
والمرادُ بالوجوه والنظائر القرآنية: الألفاظ القرآنيةُ المُتحدةُ لفظاً أو أصلاً والمختلفةُ معنىً.
والفرق بين الوجوهِ والنظائر وكليات التفسير: أن اللفظة في كليات التفسير يطردُ معناه ولا يتغير, وأما في الوجوه والنظائر فإن اللفظة مع كونه واحداً فإنه قد يتغير معناه.
وفائدة ذلك: الأمن من الغلط في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى بحمل اللفظ على معنىً واحدٍ مطرد.
والمتنُ المعتمد في دارسة الوجوه والنظائر القرآنية هو كتاب ((نُزهةُ الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر)) للعلامة أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى.
وهذا الكتابُ يفتقرُ أيضاً إلى شرحٍ أو حاشيةٍ عليه, لكن تحقيقه الذي خرج معه كما يسمى: بتحقيق. نافعٌ وفيه فوائد, لكن مفتقرٌ إلى شرحٍ يبينُ ما يحتاج إلى تحقيقه من هذه الوجوه والنظائر.
ولهذا ينتفعُ بدارسة هذا الكتاب بكُتبِ ابن فارس رحمه الله تعالى ولاسيما كتاب ((مقايس اللغة)), فلابد من مقارنةِ ما يذكره المصنفون في هذا الباب بنظيره مما حرره علماءُ العربية في أصول المعاني.
أما المرتبة الخامسة فهي: دراسةُ هدايات السور.
والمرادُ بهدايات السور: الغايات المُرادة من سور القرآن الكريم إجمالاً.
وهي التي سماها المتأخرون: بمقاصد السور. وسماها بعضهم: بأغراض السور.
والمناسب لما جاء في القرآن الكريم تسميتها: بهدايات السور. فإن الله عز وجل ذكر في مواضع عدة أن القرآن كتابٌ يهدي.
وكلُّ سورةٍ فلها هدايةٌ إجمالية ولها هداياتٌ تفصيلية:
فالهداية الإجمالية: هي التي يشار إليها بمقاصد السورة وأغراض السورة ومطالب السورة.
والهدايات التفصلية: هي الأحكام التي تستنبط من كلِّ آيةٍ من آياتها.
والمتنُ المعتمدُ أصلاً لدراية هدايات السور ومقاصدُها: هو كلام ابن عاشور في تفسيره.
وقد جرده أحد المعاصرين في كتاب سماه: ((أغراض سور القرآن الكريم في تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور)).
فالمرتبة السادسة هي : دراسة مُجمل التفسير.
والمراد بمجمل التفسير: التفسير الوجيز الكفيلُ ببيان المعاني الكليّة لآيات القرآن الكريم.
وهذا التفسير المجمل مرتبةٌ قبل التفسير المُفصل, ولا يرتقي إلى التفسير المفصل إلا من درس القرآن الكريم تفسيرَه على وجه الإجمال.
وفائدةُ دراسة التفسير الوجيز: الإطلاعُ على المعاني الكليّة الإجمالية للقرآن الكريم.
وأكثرها نفعاً وأعظمها دوراناً هو تفسير الجلالين واسمه: ((المفصل في تفسير القرآن الكريم)) لكنه شُهر بتسميته ((تفسير الجلالين)) نسبةً إلى المصنفين الذين تشاركا في وضعه,
وإنك لن تجد تفسيراً من التفاسير اعتنى به أهل العلم درساً وشرحاً وتحشيّةً أكثر من تفسيرين اثنين:
أحدهما: تفسيرُ الجلالين.
والآخر: تفسير البيضاوي.
وأعظمُ ما ينتفعُ الإنسان معه بحاشيتيّن اثنتين:
إحداهما: حاشية الجمل.
والأخرى: حاشيةُ الصاوي.
فهاتان الحاشيتان نافعتان في استصحابهما عند دراسة هذا التفسير عند أحد علماء التفسير.
أما المرتبة السابعة فهي: دراسةُ تصريف القرآن.
وليس المراد بالتصريف ما يُنسب إلى علم النحو من أبنية الأفعال والأسماء, وإنما يرادُ بذلك التصريف في القرآن وهو الذي سماه المتأخرون: بمتشابه القرآن. وهذه التسمية لا تناسب الوضع الشرعي لمعنى التصريف, وهم في بناء هذا العلم تارةً يخلطونه بأشياء أخرى لا مدخل لها في علم تصريف القرآن.
والمتنُ المعتمد أصلاً في درايته هو ((كشف المعاني في متشابه المثاني)) للعلامة محمد بن إبراهيم بن جماعة رحمه الله تعالى.
وهو كتابٌ مفتقرٌ إلى شروحٍ وحواشٍ توضع عليه.
وأما المرتبةُ الثامنة فهي: دارسةُ مفصل التفسير.
والمراد بمفصل التفسير: التفصيلُ المستوعب المفرد لكلِّ آيةٍ من آيات القرآن على وجهٍ التفصيل لا على وجه الإجمال.
وفائدته: الإعانةُ على كمال الفهم للقرآن الكريم.
وفيه مصنفاتٌ كثيرةٌ من أمثلها أصلا معتمداً في داريته ((جامعُ البيان في تفسير القرآن)) وهو من تصنيف الحافظ محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
ولم يحفل بشيءٍ من الشروح والحواشي, مع أنه أوْلى التفاسير بذلك سوى ما كتبه عليه ابنا شاكر العلامة محمود وأخوه أحمد رحمهما الله تعالى, فيستفاد مما كتبا فيما انتهى إليه كتابتهُما رحمهما الله تعالى.
كما أنه يستفادُ خاصةً من ((تفسير ابن كثير)) في العقبات التي نبه عليها في ما يتعلق من كلام ابن جرير الطبري.
أما المرتبة التاسعة فهي: دارسة هدايات السور مفصلةً.
وهي التي سماها المتأخرون: بأحكام القرآن. ويردون بذلك الفوائد المستنبطة من آي القرآن الكريم, وهذه المرتبة مرتبةٌ أخرى غيرُ مفصلِ التفسير.
فالمراد بها استخراجُ كلِّ ما يستفادُ من آي الكتاب الكريم.
والمتنُ المعتمدُ أصلاً في دراية هداية القرآن الكريم هو كتاب ((الجامع في أحكام القرآن)) للعلامة أبي عبدالله حمد بن أحمد القرطبي, وعمادُ هذا التفسير على تفسيرين هما: ((المحرر الوجيز)) لابن عطية, و((أحكام القرآن)) لأبي بكر ابن العربي رحمهم الله تعالى.
فهذه كتبٌ تسعةٌ في مراتب تسعة تأخذ تلقيًّا عن الشيوخ, وكلُّ هذه المراتب مندرجةٌ في إحدى القوتين التي تحصل بها العلوم, فإن العلوم تحصل بقوتين ذكرهما قدماءُ فلاسفة اليونان ثم بسط المعنى أبو العباس ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) وغيره:
فالقوة الأولى: قوة الفهم.
والقوة الثانية: قوة الحفظ.
ولا يظنن أمرءٌ أنه يدرك علماً من العلوم بلا حفظٍ, قال شيخ شيوخنا ابن مانع رحمه الله تعالى: أجمعَ العقلاء على أن العلم لا يُنال إلا بحفظ.
فثّمة جملةٌ من الكتب التي يحسُن أن يحفظها الطالب:
فأولها: ((حسنُ البيان في نظم مشتركات القرآن)) للعلامة الأبياري.
وأما المحفوظ الثاني: فهو ((البيانُ لما خفيّ معناه من القرآن)) والذي يخفى معناه في القرآن هو يسمى: بالغريب.
وتقدم ذكر المتن المعتمد فيه وأنه كتابُ ((تحفة الأريب)) للعلامة أبي حيان الغرناطي رحمه الله تعالى, إلا أن هذا الكتاب مع جلالته وإمامة مصنفه جعلَه على الأصول اللغوية, فعمدتُ إليه فرتبته على الأحرف الأبتثية باعتبار الكلمة دون النظر إلى أصلها, ثم رأيتُ أن من البركة للمتلقي أن يقتصر على حفظ ما ذكره أبو حيان بل ننظر إلى أصول ذلك فنمدهُ به فيحفظه الطالب ويقعُ له بذلك حفظ كثيرٍ من كلام السلف.
وأما المتنُ الثالث: فهو ((امددُ المُستشير بأصول الأحاديث في التفسير)) وهو نظيرُ كتاب بلوغ المرام للحافظ ابن حجر في الأحكام, وهذا الكتاب كنظيره السابق عسى أن يخرج هذه السنة في عالم المطبوعات.
وأما المتنُ الرابع: فهو ((ألفيةُ ابن العالم)) الورجلاني الأدراري الجزائري المتوفي سنة ألفٍ ومائتين وعشرين.
فإنه اعتنى بالغريب على وجه بديع وزاد الإبداع إبداعاً فنظم الوجوه والنظائر القرآنية,وجعل منظومته ثلاثة أقسام:
فالقسم الأول: في الغريب المتكرر في آيات القرآن الكريم, لا في سورةٍ بعينها.
والقسم الثاني: في الغريب المتعلق بسورةٍ مفردة, وجاء به على ترتيب المصحف.
والقسم الثالث: في بيان الوجوه والنظائر القرآنية.
وهذه الألفية عليها شرحٌ اسمه ((ضياءُ المعالم في شرح ألفية ابن العالم)) للعلامة محمد باي بلعالم رحمه الله تعالى.
المتون الأربعة هي يحسنُ حفظها مع دراسة الكتب التسعة, فمتى استوفى الإنسان دراسة هذا العلم على هذا النسق, فأنا كفيلٌ له بأن يكون عنده علمٌ في التفسير على وجهٍ قلّ وجدانه في المتأخرين للجهل بالطريق, وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والجهلُ بالطريق وآفاته والمقصود يُضيعُ العمر مع تعبٍ كثير وفائدة قليلة.
فإن هذا الذي ذكرنا إنما يترقى به الإنسان في كيفية ترقي علم التفسير, وأما بناء ملكة المفسر فوراء ذلك آلاتٌ إيمانية وعلمية متى استوفاها الإنسان كان مفسراً.
قال الشيخ حفظه الله تعالى:
...إذا تقرر مقامُ علم التفسير وعِظمُ جلالته فينبغي أن يعلمُ المرءُ بعدُ أن كل مغلوقٍ له طريقٌ يوصل إليه, وهذه قاعدةٌ أجمعت عليها الأمم قاطبةً, فمن أراد شيئاً من الأمور الحسيّة أو المعنويّة فلابد أن يسلك طريقاً يفضي به إليه وجادةً تدلُّ عليه, ولما كان العلم مطلوباً معنويً فإن له جادةً توصل إلى كلِ فنٍّ ويشهدُ لذلك ما رواه مسلم بنُ الحجاج في ((صحيحه)) من حديث سليمان الأعمش عن أبي صالح الزيات عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فذكر حديثاً وفيه: <<ومن سلك طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة>>.
وكما أن الجنة لها طرقٌ توصل إليها وهي الأعمالُ الصالحة, والاعتقادات الكاملة, فكذلك كلٌ فنٍّ من الفنون له طريقٌ يوصل إليه, ويقال حينئذٍ: إن معرفة تفسير الله سبحانه وتعالى لها طريقٌ توصلُ إليها وتفضي سالكها من الإحاطة بعلم التفسير.
ولا يمكن أن يتلقى علم التفسير بدون شيخ. فعند أبي داود من حديث الأعمش عن عبدالله بن عبدالله, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:<< تسمعون ويُسمع منكم ويسمعُ ممن سمع منكم>>. وإسنادهُ قوي.
وهذا الحديث حُجةٌ أن كلَّ علم من العلوم لا يؤخذُ إلا بالتلقي.
ويعلمُ أيضاً أن من الغلط من يظنُ أن علم التفسير يؤخذُ بالقراءة المجردة بكتب التفسير, لأن التفسير ليست معادلات رياضيةٍ تحفظ وإنما هو علمٌ يَجمعُ بين إدراك جُملٍ من الأصول والقواعد مع صفاء النفوس وصلاحية القلوب= فعند ذلك يحاطُ بالتفسير.
محل هذا المقام وهو من الأمور الحقيقة بأن تستفتح بها مجالس التفسير: الإرشادُ إلى مراتب ومنازلِ تلقيّ علم التفسير. وإنما خفيَّ الإرشاد إلى هذه المراتب لعزةِ علم التفسير في الأمة, فإن علم التفسير في الأمة منذُ القديم قليلٌ .
فإنه علمٌ يحتاج إلى آلةٍ عظيمة وعلومٍ متعددة, ولكن من أخذ هذه الطريق على وجهٍ صحيح مع دوام الإلحاح وسؤال الله عز وجل أن يفتح له, فإنه يحيطُ علماً بتفسير كتاب الله سبحانه وتعالى.
ففاتحة المراتب: دارسةُ كليات التفسير في الألفاظ.
ومعنى كليات التفسير في الألفاظ: الكلمات القرآنية التي يطردُ معناها في القرآن الكريم.
فإن كليات التفسير نوعان:
أحدُهما: كلياتٌ المباني. وهي التي ذكرنا لك والإحاطةُ بها ممكنةٌ لعموم الخلق.
والآخر: كلياتٌ المعاني. وهي المستفادةُ من الاستخراج التام لأساليب القرآن الكريم.
وقل من أشار إلى هذا النوع أو أشاد به إلا نفراً يسيراً في الأمة ممن له مكنةٌ في علم التفسير كأبي العباس ابن تيمية الحفيد وتلميذه ابن القيم والشاطبي في مواضع متفرقةٍ من كتاب الموافقات.
وهذه الكليات التفسير هي غيرُ كليات القرآن, ومن الناس من يَخلطُ بينهما.
وأما كليات القرآن: فهي المعاني المُبيّنة في القرآن أنها عامة كُليّة.
والمتنُ المرشح: ((حسنُ البيان في نظم مُشتركات القرآن)) للعلامة عبدالهادي بن رضوان الأبياريّ الأزهريّ رحمه الله تعالى.
وهذا المتنُ يفتقدُ إلى الشروح والحواشي عليه سوى حاشيةٍ للمصنف نفسِهِ, نشرت في ضمن كتابه ((المواكب العليّة على الكواكب الذرية في الضوابط العلمية)) وهو كتابٌ عظيم في مجلدين.
أما المرتبةُ الثانية: دراسة غريبِ القرآن.
ومعنى غريب القرآن: الألفاظُ التي تخفى معانيها لقلّة استعمالها.
وهذا الفنُّ من العلوم المحتاج إليها في تفسير كلام الله عز وجل لا يتعلق بكلِّ كلمةٍ في القرآن, وإنما يتعلقُ في الكلمات التي يقلُّ دورانها ويخفى معانها على عموم الناس.
وفائدته: اكتمالُ فهم مراد القرآن.
والمتنُ المعتمدُ أصلاً في درايته هو كتابُ ((تحفتُ الأريب فيما القرآن من الغريب)) للعلامة محمد بن يوسف الأندلسي, المعروف بأبي حيان الأندلسي.
وهذا الكتابُ ليس عليه شرحٌ ولا حاشيةٌ مُتداولة, لكن يوجدُ تسجيلٌ لشيخ عبدالرحمن عُوف كوني في التعليق على هذا الكتاب.
أما المرتبة الثالثة: فهي دراسةُ كلمات القرآن.
والمراد بكلمات القرآن: الألفاظ القرآنية عامةً.
والفرقُ بينها وبين الغريب: أن الغريب يختصُ بالمنفرد القليل الدوران على اللسان, أما كلمات القرآن فإنها تشمل الغريب وغيره.
والفرقُ بين هذه المنزلة وبين تفسير القرآن: أن هذه المنزلة يستجلي فيها المُتلقي معاني مفردات القرآن, بخلاف التفسير الذي يستجلي به المعاني الكليّة دون المفردات.
وفائدته: الإطلاعُ على معاني الكلمات القرآنية.
والمتنُ المعتمدُ أصلاً في درايته كتاب ((كلماتُ القرآن توضيحٌ وبيان)) للعلامة حسنين بنُ محمد مخلوف المالكي الأزهري رحمه الله تعالى.
ووقعت فيه مواضعُ احتيج فيها إلى التعقب, صنف في الإشارة إليها أحدُ المعاصرين كتابٌ اسمه ((التعقُبات المفيدة على كتاب كلمات القرآن)) فيستفادُ بضمه إليه.
وهذا الكتابُ ليس عليه شيءٌ من الشروح والحواشي, وهو حقيقٌ بذلك كالكتابين السابقين, وفقدانُ الشروح والحواشي عليه وعلى ما مضى فيه أعظمُ إعلامٍ بأن علم التفسير في الأمةِ قليلٌ وعزيز.
وأما المرتبةُ الرابعة فهي: دراسةُ الوجوه والنظائر القرآنية.
والمرادُ بالوجوه والنظائر القرآنية: الألفاظ القرآنيةُ المُتحدةُ لفظاً أو أصلاً والمختلفةُ معنىً.
والفرق بين الوجوهِ والنظائر وكليات التفسير: أن اللفظة في كليات التفسير يطردُ معناه ولا يتغير, وأما في الوجوه والنظائر فإن اللفظة مع كونه واحداً فإنه قد يتغير معناه.
وفائدة ذلك: الأمن من الغلط في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى بحمل اللفظ على معنىً واحدٍ مطرد.
والمتنُ المعتمد في دارسة الوجوه والنظائر القرآنية هو كتاب ((نُزهةُ الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر)) للعلامة أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى.
وهذا الكتابُ يفتقرُ أيضاً إلى شرحٍ أو حاشيةٍ عليه, لكن تحقيقه الذي خرج معه كما يسمى: بتحقيق. نافعٌ وفيه فوائد, لكن مفتقرٌ إلى شرحٍ يبينُ ما يحتاج إلى تحقيقه من هذه الوجوه والنظائر.
ولهذا ينتفعُ بدارسة هذا الكتاب بكُتبِ ابن فارس رحمه الله تعالى ولاسيما كتاب ((مقايس اللغة)), فلابد من مقارنةِ ما يذكره المصنفون في هذا الباب بنظيره مما حرره علماءُ العربية في أصول المعاني.
أما المرتبة الخامسة فهي: دراسةُ هدايات السور.
والمرادُ بهدايات السور: الغايات المُرادة من سور القرآن الكريم إجمالاً.
وهي التي سماها المتأخرون: بمقاصد السور. وسماها بعضهم: بأغراض السور.
والمناسب لما جاء في القرآن الكريم تسميتها: بهدايات السور. فإن الله عز وجل ذكر في مواضع عدة أن القرآن كتابٌ يهدي.
وكلُّ سورةٍ فلها هدايةٌ إجمالية ولها هداياتٌ تفصيلية:
فالهداية الإجمالية: هي التي يشار إليها بمقاصد السورة وأغراض السورة ومطالب السورة.
والهدايات التفصلية: هي الأحكام التي تستنبط من كلِّ آيةٍ من آياتها.
والمتنُ المعتمدُ أصلاً لدراية هدايات السور ومقاصدُها: هو كلام ابن عاشور في تفسيره.
وقد جرده أحد المعاصرين في كتاب سماه: ((أغراض سور القرآن الكريم في تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور)).
فالمرتبة السادسة هي : دراسة مُجمل التفسير.
والمراد بمجمل التفسير: التفسير الوجيز الكفيلُ ببيان المعاني الكليّة لآيات القرآن الكريم.
وهذا التفسير المجمل مرتبةٌ قبل التفسير المُفصل, ولا يرتقي إلى التفسير المفصل إلا من درس القرآن الكريم تفسيرَه على وجه الإجمال.
وفائدةُ دراسة التفسير الوجيز: الإطلاعُ على المعاني الكليّة الإجمالية للقرآن الكريم.
وأكثرها نفعاً وأعظمها دوراناً هو تفسير الجلالين واسمه: ((المفصل في تفسير القرآن الكريم)) لكنه شُهر بتسميته ((تفسير الجلالين)) نسبةً إلى المصنفين الذين تشاركا في وضعه,
وإنك لن تجد تفسيراً من التفاسير اعتنى به أهل العلم درساً وشرحاً وتحشيّةً أكثر من تفسيرين اثنين:
أحدهما: تفسيرُ الجلالين.
والآخر: تفسير البيضاوي.
وأعظمُ ما ينتفعُ الإنسان معه بحاشيتيّن اثنتين:
إحداهما: حاشية الجمل.
والأخرى: حاشيةُ الصاوي.
فهاتان الحاشيتان نافعتان في استصحابهما عند دراسة هذا التفسير عند أحد علماء التفسير.
أما المرتبة السابعة فهي: دراسةُ تصريف القرآن.
وليس المراد بالتصريف ما يُنسب إلى علم النحو من أبنية الأفعال والأسماء, وإنما يرادُ بذلك التصريف في القرآن وهو الذي سماه المتأخرون: بمتشابه القرآن. وهذه التسمية لا تناسب الوضع الشرعي لمعنى التصريف, وهم في بناء هذا العلم تارةً يخلطونه بأشياء أخرى لا مدخل لها في علم تصريف القرآن.
والمتنُ المعتمد أصلاً في درايته هو ((كشف المعاني في متشابه المثاني)) للعلامة محمد بن إبراهيم بن جماعة رحمه الله تعالى.
وهو كتابٌ مفتقرٌ إلى شروحٍ وحواشٍ توضع عليه.
وأما المرتبةُ الثامنة فهي: دارسةُ مفصل التفسير.
والمراد بمفصل التفسير: التفصيلُ المستوعب المفرد لكلِّ آيةٍ من آيات القرآن على وجهٍ التفصيل لا على وجه الإجمال.
وفائدته: الإعانةُ على كمال الفهم للقرآن الكريم.
وفيه مصنفاتٌ كثيرةٌ من أمثلها أصلا معتمداً في داريته ((جامعُ البيان في تفسير القرآن)) وهو من تصنيف الحافظ محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
ولم يحفل بشيءٍ من الشروح والحواشي, مع أنه أوْلى التفاسير بذلك سوى ما كتبه عليه ابنا شاكر العلامة محمود وأخوه أحمد رحمهما الله تعالى, فيستفاد مما كتبا فيما انتهى إليه كتابتهُما رحمهما الله تعالى.
كما أنه يستفادُ خاصةً من ((تفسير ابن كثير)) في العقبات التي نبه عليها في ما يتعلق من كلام ابن جرير الطبري.
أما المرتبة التاسعة فهي: دارسة هدايات السور مفصلةً.
وهي التي سماها المتأخرون: بأحكام القرآن. ويردون بذلك الفوائد المستنبطة من آي القرآن الكريم, وهذه المرتبة مرتبةٌ أخرى غيرُ مفصلِ التفسير.
فالمراد بها استخراجُ كلِّ ما يستفادُ من آي الكتاب الكريم.
والمتنُ المعتمدُ أصلاً في دراية هداية القرآن الكريم هو كتاب ((الجامع في أحكام القرآن)) للعلامة أبي عبدالله حمد بن أحمد القرطبي, وعمادُ هذا التفسير على تفسيرين هما: ((المحرر الوجيز)) لابن عطية, و((أحكام القرآن)) لأبي بكر ابن العربي رحمهم الله تعالى.
فهذه كتبٌ تسعةٌ في مراتب تسعة تأخذ تلقيًّا عن الشيوخ, وكلُّ هذه المراتب مندرجةٌ في إحدى القوتين التي تحصل بها العلوم, فإن العلوم تحصل بقوتين ذكرهما قدماءُ فلاسفة اليونان ثم بسط المعنى أبو العباس ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) وغيره:
فالقوة الأولى: قوة الفهم.
والقوة الثانية: قوة الحفظ.
ولا يظنن أمرءٌ أنه يدرك علماً من العلوم بلا حفظٍ, قال شيخ شيوخنا ابن مانع رحمه الله تعالى: أجمعَ العقلاء على أن العلم لا يُنال إلا بحفظ.
فثّمة جملةٌ من الكتب التي يحسُن أن يحفظها الطالب:
فأولها: ((حسنُ البيان في نظم مشتركات القرآن)) للعلامة الأبياري.
وأما المحفوظ الثاني: فهو ((البيانُ لما خفيّ معناه من القرآن)) والذي يخفى معناه في القرآن هو يسمى: بالغريب.
وتقدم ذكر المتن المعتمد فيه وأنه كتابُ ((تحفة الأريب)) للعلامة أبي حيان الغرناطي رحمه الله تعالى, إلا أن هذا الكتاب مع جلالته وإمامة مصنفه جعلَه على الأصول اللغوية, فعمدتُ إليه فرتبته على الأحرف الأبتثية باعتبار الكلمة دون النظر إلى أصلها, ثم رأيتُ أن من البركة للمتلقي أن يقتصر على حفظ ما ذكره أبو حيان بل ننظر إلى أصول ذلك فنمدهُ به فيحفظه الطالب ويقعُ له بذلك حفظ كثيرٍ من كلام السلف.
وأما المتنُ الثالث: فهو ((امددُ المُستشير بأصول الأحاديث في التفسير)) وهو نظيرُ كتاب بلوغ المرام للحافظ ابن حجر في الأحكام, وهذا الكتاب كنظيره السابق عسى أن يخرج هذه السنة في عالم المطبوعات.
وأما المتنُ الرابع: فهو ((ألفيةُ ابن العالم)) الورجلاني الأدراري الجزائري المتوفي سنة ألفٍ ومائتين وعشرين.
فإنه اعتنى بالغريب على وجه بديع وزاد الإبداع إبداعاً فنظم الوجوه والنظائر القرآنية,وجعل منظومته ثلاثة أقسام:
فالقسم الأول: في الغريب المتكرر في آيات القرآن الكريم, لا في سورةٍ بعينها.
والقسم الثاني: في الغريب المتعلق بسورةٍ مفردة, وجاء به على ترتيب المصحف.
والقسم الثالث: في بيان الوجوه والنظائر القرآنية.
وهذه الألفية عليها شرحٌ اسمه ((ضياءُ المعالم في شرح ألفية ابن العالم)) للعلامة محمد باي بلعالم رحمه الله تعالى.
المتون الأربعة هي يحسنُ حفظها مع دراسة الكتب التسعة, فمتى استوفى الإنسان دراسة هذا العلم على هذا النسق, فأنا كفيلٌ له بأن يكون عنده علمٌ في التفسير على وجهٍ قلّ وجدانه في المتأخرين للجهل بالطريق, وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والجهلُ بالطريق وآفاته والمقصود يُضيعُ العمر مع تعبٍ كثير وفائدة قليلة.
فإن هذا الذي ذكرنا إنما يترقى به الإنسان في كيفية ترقي علم التفسير, وأما بناء ملكة المفسر فوراء ذلك آلاتٌ إيمانية وعلمية متى استوفاها الإنسان كان مفسراً.
------------------------------------------------------------------------
ملخص (بناء ملكة المفسر)
قال حفظه الله :
ملخص بناء ملكة التفسير
...سَبق نعتُ الطريق المأمون والجادةِ السالمة لمن سلكها يرومُ أن يتلقى تفسير القرآن الكريم, فمتى ترقى فيها مرتبةً مرتبة انتهى به ذلك الترقي إلى كمال التلقي لمعاني القرآن الكريم,
والمقصود بذلك أن يكون علمُ التفسير ملكةً للعبد, والمرادُ بالملكة: الهيئةُ الراسخة الثابتة.
ونحنُ ننعتُ بإذن الله وحوله وقوته الطريقة الموصلة إلى كيفية تحصيل ملكة التفسير,
فأولُ ما ينبغي أن يحوزَه المرء: تعظيمُ القرآن وإجلالُه.
فإذا عُظم القرآن الكريم في قلب الإنسان تلقاه بشدة إقبالٍ وزيادة محبة, وتغرغرت روحه بلذته, وقد قال بعضُ الأدباء قديماً: كلامُ الملوك مُلوكُ الكلام. أي أن كلام ملوك البشر يُجعل مُقدماً بين كلام البشر كُلِهم, وإذا كان الأمر كذلك فإن كلام ملك الملوك سبحانه وتعالى أجلُ من كلام غيره.
وأما الدرةُ الثانيةُ في جواهر هذا العِقد: فهو الفرح بالقرآن ومحبته والتمسكُ به.
وقد سئل العلامة عبدالرحمن الدوسري -أحد علماء القرن الماضي-عن آلة المفسر فقال: أولُها الفرحُ بالقرآن الكريم.
أما الدرةُ الثالثة: فهي إدامة قراءة القرآن وتكرار النظر فيه.
أما الدرة الرابعة: فهي سلامة القلب وطهارة الباطن.
فإن القرآن الكريم كتابٌ كريم أخبر الله عز وجل عنه فقال: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة/79], وهم الملائكة, فإذا كانت آيات الكتاب في اللوح المحفوظ لا تمسها إلا الملائكة, والمصحفُ لا يمسه إلا طاهر كما جاء في حديث أبي بكر بن عمرو بن حزم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إليه عند النسئي وغيره, فكذلك معاني القرآن الكريم لا تصلُ إليها إلا القلوب الطاهرة.
أما الدرة الخامسة: فهي تلقي التفسير بسلوك جادةٍ موصلةٍ إليه.
لأن العلم كُله في أيّ فنٍّ من فنونه لا يؤخذ إلا بطريقٍ تسلكُ فتوصلُ إليه, ومن ظن أنه ينالُه بغير الطريق فلا يتعنى.
أما الدرة السادسة: فهي معرفة أصول التفسير وقواعده.
وكلُّ علمٍ من العلوم المُعظمة له أصولٌ وقواعد, والمرادً بالأصول: ما تتقدمهُ فيبنى عليها. والمرادُ بالقواعد: ما تَخلفهُ وتنتجُ منه, فتكون معينةً على فهمه.
والمرادُ بأصول التفسير: هي القواعدُ التي يعرفُ بها معاني القرآن الكريم.
والمرادُ بقواعد التفسير: القضايا الكليّة التفسيريّة المنطبقةُ على آياتٍ متفرقة من سورٍ متعددة.
أما الدرة السابعة: فهي دراسة ما يُحتاج إليه من علوم القرآن.
أما الدرةُ الثامنة: فهي إصابةُ حظٍ وافر من علوم الآلة المعينة على كشف معاني القرآن.
وعمادُ هذه العلوم علوم العربية, ومن لم يكن له علمٌ باللسان العربي فإنه لا يتكلم في القرآن العربي, وكان مالكٌ رضي الله عنه يقول: إن أوتي إليّ برجلٍ غيرِ عالمٍ بالعربية يفسرُ القرآن جعلته نكالا. يعني أنزلت به عقوبةً عظيمة,
ولا نعني بهذا كما يتوهم بعض الناس قدراً يسيراً من اللغة, بل كلما أوغل المرءُ في لسان العرب كلما كمل له فهم القرآن الكريم.
أما الدرة التاسعة: فهي استيفاءُ قدرٍ متينٍ من علوم الدين.
فمن رسخت قدمه في العلم كمل علمه بالقرآن الكريم كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } [آل عمران/7] , على عطف (الراسخون) على اسم ربنا سبحانه وتعالى.
أما الدرة العاشرة: الاعتناء بثنيّ القرآن بعضه على بعض وتصديق بعضه ببعض.
فإن الله عز وجل قال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } [الزمر/23] , أي يرجعُ بعضه على بعض ويثنى بعضه على بعض لأنه متشابه, أي يصدق بعضه بعضا, وهذا الردُّ لبعضه على بعض تارةً يكون من دلالة السياق, وهي من أعظم الدلالات كما أشار إلى ذلك أبو محمد ابن عبد السلام في كتاب (الإمام)) ونقل كلامه الزركشيُّ في ((البحر المحيط)), وأشار إلى هذا المعنى بعد ابن القيم في ((بدائع الفوائد)).
وتفسير القرآن بالقرآن هو أصحُ المطالب العلمية في تفسير الآيات القرآنية وهو نوعان:
أحدُهما: تفسيرٌ متصل.
والثاني: فهو المنفصل.
وهذا التفسير للقرآن بالقرآن نوعان:
أحدهما: لفظيٌّ. وهو في القرآن قليل.
والآخر: معنويٌّ. وهو معترك الأنظار.
أما الدرة الحادية عشر من درر عقد جوهر بناء ملكة التفسير فهي: تدبر القرآن وإمعانُ النظر في استنباط معانيه.
لأن الله عز وجل أمرنا بذلك.
والمرادُ بتدبر القرآن: نظرُ القلبِ إلى معاني القرآن لبلوغِ غايتها.
وتدبر القرآن فإنه عملٌ قلبيّ, والمتكلمون اليوم في تدبر القرآن طائفتان:
فالطائفة الأولى: قومٌ أرادوا تعظيم القرآن وردّ الناس إليه بالنظر فيه دون معرفة تفسيره؛ وهؤلاء محسنون ولكنهم خالفوا ما كان عليه الأوائل من تسمية ذلك تفسيراً لأن التفسير درجات.
وأما الطائفة الثانية: فطائفةٌ أرادوا أن يكون القرآن كتاب فلسفةٍ للحياة يتكلمُ فيه كلُّ من يشاء بما يشاء.
فهذه الدرر الإحدى عشر هي التي يسلك فيها عِقدُ جوهر بناء ملك التفسير, فمتى استوفاها الإنسان وصار له حظٌ منها, فإن ملك التفسير تقرُّ في قلبه ويكون مفسراً بالنفس كما يقال في الفقهاء: فقيه بالنفس. يعني أن روحه ونفسه ممتزجةٌ بالفقه, فكذلك من تبوء هذا المقام= صارت روحه ونفسه ممتزجةٌ بتفسير كلام الله سبحانه وتعالى.
والحمد لله على التمام