المجموعة الثانية من فوائد
تفسير السعدي
(الجزء الأول ):
1.
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف, ونهيهم عن المنكر,
وتعليمهم العلم, وبذل السلام, والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان
لا يسع الناس بماله, أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق, وهو الإحسان بالقول,
فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار, ولهذا قال تعالى:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
ومن
أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده, أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله,
غير فاحش ولا بذيء, ولا شاتم, ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق, واسع الحلم, مجاملا
لكل أحد, صبورا على ما يناله من أذى الخلق, امتثالا لأمر الله, ورجاء لثوابه.
2. {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ
اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون...ََ}
...ولما
كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم
ينتفع, ابتلي بالاشتغال بما يضره, فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان,
ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق
ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد،
ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.
كذلك
هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك
سليمان ...
3. ثم
ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه ـ صلى الله عليه وسلم
ـ وصحة ما جاء به فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}
فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها, وهي ترجع إلى ثلاثة أمور:
الأول:
في نفس إرساله, والثاني: في سيرته وهديه ودله، والثالث: في معرفة ما جاء به من
القرآن والسنة.
فالأول
والثاني, قد دخلا في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} والثالث دخل في قوله:
{بِالْحَقِّ}
وبيان
الأمر الأول وهو ـ نفس إرساله ـ أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته ـ صلى الله عليه
وسلم ـ وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران, والصلبان, وتبديلهم للأديان,
حتى كانوا في ظلمة من الكفر, قد عمتهم وشملتهم, إلا بقايا من أهل الكتاب, قد
انقرضوا قبيل البعثة.
وقد
علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى, ولم يتركهم هملا, لأنه حكيم عليم, قدير
رحيم، فمن حكمته ورحمته بعباده, أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم, يأمرهم بعبادة
الرحمن وحده لا شريك له, فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه, وهو آية كبيرة على أنه
رسول الله،
وأما
الثاني: فمن عرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معرفة تامة, وعرف سيرته وهديه قبل
البعثة, ونشوءه على أكمل الخصال, ثم من بعد ذلك قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة
الباهرة للناظرين, فمن عرفها, وسبر أحواله, عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء
الكاملين, لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم.
وأما
الثالث: فهو معرفة ما جاء به ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشرع العظيم, والقرآن
الكريم, المشتمل على الإخبارات الصادقة, والأوامر الحسنة, والنهي عن كل قبيح,
والمعجزات الباهرة, فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة.
4. {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا
وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
...
فقد اشتملت هذه الآية الكريمة ـ على إيجازها واختصارها ـ على أنواع التوحيد الثلاثة:
توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات، واشتملت على الإيمان
بجميع الرسل, وجميع الكتب، وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم، وعلى التصديق
بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك، وعلى الفرق بين الرسل الصادقين, ومن
ادعى النبوة من الكاذبين، وعلى تعليم الباري عباده, كيف يقولون, ورحمته وإحسانه
عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة، فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل
شيء, وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
( الجزء الثاني) :
1. فمن
دعا ربه بقلب حاضر, ودعاء مشروع, ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء, كأكل الحرام
ونحوه, فإن الله قد وعده بالإجابة، و خصوصًا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء, وهي
الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية, والإيمان به,
الموجب للاستجابة، فلهذا قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ} أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة,
ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة
لأمره, سبب لحصول العلم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}.
2.
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ِ}
والحسنة
المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد, من رزق هنيء واسع حلال,
وزوجة صالحة, وولد تقر به العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك,
من المطالب المحبوبة والمباحة.
وحسنة
الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر, والموقف, والنار, وحصول رضا الله,
والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله,
وأولاه بالإيثار, ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر من الدعاء به, والحث
عليه.
3.
{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي: في أقوالهم و أفعالهم وأحوالهم,
فمخالطتهم على خطر منهم, والخطر ليس من الأخطار الدنيوية, إنما هو الشقاء الأبدي.
ويستفاد
من تعليل الآية, النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع, لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن
فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى, و خصوصًا, الخلطة التي فيها ارتفاع
المشرك ونحوه على المسلم, كالخدمة ونحوها.
4. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّه...}
وفي
هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب، فمنها: أن اجتماع أهل الكلمة
والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، ثم العمل به، أكبر سبب
لارتقائهم وحصول مقصودهم، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع
به كلمتهم ويلم متفرقهم، وتحصل له الطاعة منهم، ومنها: أن الحق كلما عورض وأوردت
عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء، لما اعترضوا على
استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب. ومنها:
أن العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها
وضررها. ومنها: أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر
والالتجاء إليه سبب النصر، فالأول كما في قولهم لنبيهم {وما لنا ألا نقاتل في سبيل
الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا،
والثاني في قوله: {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا
وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله} ومنها: أن من حكمة الله تعالى تمييز
الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على
ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز. ومنها: أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع
ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر
وشعائره عليها.
(الجزء الثالث):
1.
{زين للناس حب الشهوات ....}
...وفي
هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء،
وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر
بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي
الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع
الثمار، والأنهار الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر
وباطن، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم،
فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة
بينهما.
2.{شهد
الله أنه لا إله إلا هو ...} ... وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة،
منها: أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس، ومنها: أن الله قرن
شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلا، ومنها: أنه جعلهم أولي العلم، فأضافهم
إلى العلم، إذ هم القائمون به المتصفون بصفته، ومنها: أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة
على الناس، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به، فيكونون هم السبب في ذلك، فيكون كل
من عمل بذلك نالهم من أجره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنها: أن إشهاده تعالى
أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه.
3.
{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ...}
هذء
الآية هي الميزان ، التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة.
فعلامة
محبة الله ، اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ،الذي جعل متابعته ،وجميع ما يدعو إليه
، طريقا إلى محبته ورضوانه.
فلا
تنال محبة الله ورضوانه وثوابه ، إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال
أمرهما، واجتناب نهيهما.
فمن
فعل ذلك, أحبه الله, وجازاه جزاء المحبين, وغفر له ذنوبه, وستر عليه عيوبه.
4.
{قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ...}
وكونه
لا يقدر على مخاطبة الآدميين, ولسانه منطلق بذكر الله وتسبيحه ، آية أخرى . فحينئذ
حصل له الفرح والاستبشار ، وشكر الله، وأكثر من الذكر والتسبيح ،بالعشايا والأبكار.
وكان
هذا المولود ، من بركات مريم بنت عمران ،على زكريا .فإن ما من الله به عليها، من ذلك
الرزق الهني ،الذي يحصل بغير حساب ، ذكره وهيجه على التضرع والسؤال.
والله
تعالى هو المتفضل بالسبب والمسبب، ولكنه يقدر أمورا محبوبة على يد من يحبه ، ليرفع
الله قدره ، ويعظم أجره.
(الجزء الرابع):
1.{أم
حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}
...
وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك
الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل
الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر
منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
2.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...}
...فالأخلاق
الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من
المدح والثواب الخاص.
والأخلاق
السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم
والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟!
أليس
من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم
به ـ صلى الله عليه وسلم - من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالا لأمر الله،
وجذبا لعباد الله لدين الله.
3.
{لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا...}
...ودلت
الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق، إذا
لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة، أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة، التي
أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال، وأنه جازى بها خواص خلقه، وسألوها
منه، كما قال إبراهيم عليه السلام: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} وقال:
{سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين} وقد قال عباد الرحمن:
{واجعلنا للمتقين إمامًا} وهي من نعم الباري على عبده، ومننه التي تحتاج إلى الشكر.
4. {إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ
مِنْ قريب ...}
...توبة
الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد، فأخبر هنا
ـ أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه، كرما منه وجودا، لمن عمل السوء أي:
المعاصي {بِجَهَالَةٍ} أي: جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل
منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل
عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم شرط
لكونها معصية معاقبا عليها {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} يحتمل أن يكون المعنى:
ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب
قطعا ....
ويحتمل أن يكون معنى قوله: {مِنْ قَرِيبٍ}
أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع
من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على
ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة.
والغالب
أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون
بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة.
نعم
قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة [التي] يمحو بها ما
سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم الآية
الأولى بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}
فمِن
علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته، ومن حكمته
أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه.
والله أعلم.
(الجزء الخامس)
1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
...}
يأمر
تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا
في جميع أمورهم المشتبهة. فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البيِّنة
لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن
الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟
فإن
التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف
دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها،
فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي...
2.{
ومن يعمل سوءا...}
أن
عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي، الصغيرة والكبيرة، وسمي "سوءًا"
لكونه يسوء عامله بعقوبته، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن.
وكذلك
ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه. ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر
قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس، وهو
ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
ويفسر
ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده، وسمي ظلم النفس "ظلما"
لأن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء، وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها
أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل، بإلزامها للصراط المستقيم علمًا وعملًا،
فيسعى في تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه
وخيانة وعدول بها عن العدل، الذي ضده الجور والظلم.
3.{وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ...} ...نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله
فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلًا أن يبقيه في ضلاله
حائرًا ويزداد ضلالًا إلى ضلاله.
ويدل
مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول، ويتبع سبيل المؤمنين، بأن كان قصده وجه الله واتباع
رسوله ولزوم جماعة المسلمين، ثم صدر منه من الذنوب أو الهّم بها ما هو من مقتضيات النفوس،
وغلبات الطباع، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه، ويمن عليه بحفظه
ويعصمه من السوء.
4.
{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}...
ثم أخبر
أن مَن كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له إرادة في الآخرة فإنه
قد قصر سعيه ونظره، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كتب الله له منها، فإنه
تعالى هو المالك لكل شيء الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة، فليطلبا منه ويستعان به عليهما،
فإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة
به، والافتقار إليه على الدوام.
وله
الحكمة تعالى في توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله وفي عطائه ومنعه.
(الجزء السادس):
1.
{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي: القرب منه، والحظوة لديه، والحب له،
وذلك بأداء فرائضه القلبية، كالحب له وفيه، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل. والبدنية:
كالزكاة والحج. والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها، من أنواع القراءة والذكر، ومن أنواع
الإحسان إلى الخلق بالمال والعلم والجاه، والبدن، والنصح لعباد الله، فكل هذه الأعمال
تقرب إلى الله. ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله، فإذا أحبه كان
سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي [بها]
ويستجيب الله له الدعاء.
2.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} ....فدل ذلك
على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي اتباع هواه، وأنه إن حكم له رضي، وإن
لم يحكم له سخط، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه، كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي
به، وافق هواه أو خالفه، فإنه من طهارة القلب، ودل على أن طهارة القلب، سبب لكل خير،
وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد.
3.{بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}
لا حجر
عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد، فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي، وأمر
العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم.
فيداه
سحاء الليل والنهار، وخيره في جميع الأوقات مدرارًا، يفرج كربًا، ويزيل غمًا، ويغني
فقيرًا، ويفك أسيرًا ويجبر كسيرًا, ويجيب سائلاً، ويعطي فقيرًا عائلًا، ويجيب المضطرين،
ويستجيب للسائلين. وينعم على من لم يسأله، ويعافي من طلب العافية، ولا يحرم من خيره
عاصيا، بل خيره يرتع فيه البر والفاجر، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال ثم
يحمدهم عليها، ويضيفها إليهم، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ما
لا يدركه الوصف، ولا يخطر على بال العبد، ويلطف بهم في جميع أمورهم، ويوصل إليهم من
الإحسان، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه، فسبحان من كل النعم التي بالعباد
فمنه، وإليه يجأرون في دفع المكاره، وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه, بل هو كما
أثنى على نفسه، وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين، بل لا وجود لهم ولا بقاء
إلا بجوده.
وقبَّح
الله من استغنى بجهله عن ربه، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله ...
4.{كَانُوا
لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}
...وإنما
كان السكوت عن المنكر ـ مع القدرة ـ موجبا للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة:
منها:
أن مجرد السكوت، فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت. فإنه ـ كما يجب اجتناب المعصية
ـ فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.
ومنها:
ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة الاكتراث بها.
ومنها:
أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها....
ومنها:
أن ـ في ترك الإنكار للمنكر ـ يندرس العلم، ويكثر الجهل...
ومنها:
أن السكوت على معصية العاصين، ربما تزينت المعصية في صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض،
فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه...
(الجزء السابع):
1.
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...}
هذه
الآية العظيمة، من أعظم الآيات تفصيلا لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع
منها ما شاء من خلقه. وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين،
فضلا عن غيرهم من العالمين...
وبعض هذا المذكور، يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة
النبلاء، فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته، في أوصافه كلها. وأن الخلق ـ من أولهم
إلى آخرهم ـ لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته، لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك،
فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الحميد المجيد، الشهيد، المحيط. وجل مِنْ إله،
لا يحصي أحد ثناء عليه، بل كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، فهذه الآية،
دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الحوادث.
2.{وَمَا
عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ} أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى.
وفي
هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكِّرُ من الكلام، ما يكون أقرب إلى حصول مقصود
التقوى. وفيه دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ، مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره،
إلى أن تركه هو الواجب لأنه إذا ناقض المقصود، كان تركه مقصودًا.
3. {الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ} الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم،
فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقًا، لا بشرك، ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام،
والهداية التامة.
وإن
كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية،
وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم
الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء.
4.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي: جميع الأشياء، تحت وكالة الله وتدبيره،
خلقا، وتدبيرا، وتصريفا.
ومن
المعلوم، أن الأمر المتصرف فيه يكون استقامته وتمامه، وكمال انتظامه، بحسب حال الوكيل
عليه. ووكالته تعالى على الأشياء، ليست من جنس وكالة الخلق، فإن وكالتهم، وكالة نيابة،
والوكيل فيها تابع لموكله.
وأما
الباري، تبارك وتعالى، فوكالته من نفسه لنفسه، متضمنة لكمال العلم، وحسن التدبير والإحسان
فيه، والعدل، فلا يمكن لأحد أن يستدرك على الله، ولا يرى في خلقه خللًا ولا فطورًا،
ولا في تدبيره نقصًا وعيبًا.
ومن
وكالته: أنه تعالى، توكل ببيان دينه، وحفظه عن المزيلات والمغيرات، وأنه تولى حفظ
المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم.
(الجزء الثامن)
1.{قال
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}
...
وموجب هذا أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين لعلو النار على الطين وصعودها،
وهذا القياس من أفسد الأقيسة، فإنه باطل من عدة أوجه:
منها:
أنه في مقابلة أمر اللّه له بالسجود، والقياس إذا عارض النص، فإنه قياس باطل، لأن المقصود
بالقياس، أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه نص، يقارب الأمور المنصوص عليها، ويكون تابعا
لها.
فأما
قياس يعارضها، ويلزم من اعتباره إلغاءُ النصوص، فهذا القياس من أشنع الأقيسة.
2.{وَنَزَعْنَا
مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة، أن الغل الذي
كان موجودا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم، أن اللّه يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا
متحابين، وأخلاء متصافين.
قال
تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}
ويخلق اللّه لهم من الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور، ويرى أنه لا
فوق ما هو فيه من النعيم نعيم. فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض، لأنه قد فقدت أسبابه.
3.{أَلَا
لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} أي: له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها
وسفليها، أعيانها وأوصافها وأفعالها والأمر المتضمن للشرائع والنبوات، فالخلق: يتضمن
أحكامه الكونية القدرية، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية الشرعية، وثم أحكام الجزاء،
وذلك يكون في دار البقاء، {تَبَارَكَ اللَّهُ} أي: عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه،
فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير،
فكل بركة في الكون، فمن آثار رحمته، ولهذا قال: فـ {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
4. {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا
...}
...
وهذا مثال للقلوب حين ينزل عليها الوحي الذي هو مادة الحياة، كما أن الغيث مادة الحيا،
فإن القلوب الطيبة حين يجيئها الوحي، تقبله وتعلمه وتنبت بحسب طيب أصلها، وحسن عنصرها.
وأما
القلوب الخبيثة التي لا خير فيها، فإذا جاءها الوحي لم يجد محلا قابلا، بل يجدها غافلة
معرضة، أو معارضة، فيكون كالمطر الذي يمر على السباخ والرمال والصخور، فلا يؤثر فيها
شيئًا ...
(الجزء التاسع)
1.{قُلْ
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا...}...
وهذه
الآيات الكريمات، مبينة جهل من يقصد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويدعوه لحصول نفع
أو دفع ضر.
فإنه
ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه اللّه، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه اللّه
عنه، ولا له من العلم إلا ما علمه اللّه تعالى، وإنما ينفع من قبل ما أرسل به من البشارة
والنذارة، وعمل بذلك، فهذا نفعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي فاق نفع الآباء والأمهات،
والأخلاء والإخوان بما حث العباد على كل خير، وحذرهم عن كل شر، وبينه لهم غاية البيان
والإيضاح.
2.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
هذه
الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به
الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق،
فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل
أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره،
ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه
الحال وتنشرح له صدورهم.
{وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ} أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي
إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو بِرِّ والدين، أو إصلاح
بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح،
أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية، ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر اللّه
تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا
تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه.
3.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}...{أُولَئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} ...لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان، بين الأعمال الباطنة
والأعمال الظاهرة، بين العلم والعمل، بين أداء حقوق اللّه وحقوق عباده. وقدم تعالى
أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح وأفضل منها. وفيها دليل على أن الإيمان،
يزيد وينقص، فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها.
وأنه
ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه،.وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب اللّه تعالى
والتأمل لمعانيه.
4. {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
امتثال
العبد لتقوى ربه عنوان السعادة، وعلامة الفلاح، وقد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا
والآخرة شيئا كثيرا،فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة أشياء، كل واحد منها خير
من الدنيا وما فيها:
الأول:
الفرقان: وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل،
والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة.
الثاني
والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق
وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر.
الرابع:
الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه.
(الجزء العاشر)
1.{فَمَا
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدنيا في الآخرة إِلَّا قَلِيلٌ}...
أفليس قد جعل اللّه لكم عقولا تَزِنُون بها الأمور،
وأيها أحق بالإيثار؟.
أفليست
الدنيا ـ من أولها إلى آخرها ـ لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار عمر الإنسان القصير
جدا من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها، فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته
لا يتعدى حياته الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار، المشحونة بالأخطار.
فبأي
رَأْيٍ رأيتم إيثارها على الدار الآخرة الجامعة لكل نعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس
وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون، فواللّه ما آثر الدنيا على الآخرة من وقر الإيمان
في قلبه، ولا من جزل رأيه، ولا من عُدَّ من أولي الألباب.
2.{إِلَّا
تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا...}...
وفي
هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز
بهذه المنقبة الجليلة، والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه
الآية الكريمة، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كافرًا،
لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها.
وفيها
فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي
تطيش بها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه، وثقته بوعده الصادق، وبحسب
إيمانه وشجاعته.
وفيها:
أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى ـ إذا نزل بالعبد ـ أن يسعى
في ذهابه عنه، فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة.
3.
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا
فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ...}
...وفي
هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة، خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه، ويستهزئ
به وبآياته ورسوله، فإن اللّه تعالى يظهرها ويفضح صاحبها، ويعاقبه أشد العقوبة.
4. {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي: بالغ في جهادهم
والغلظة عليهم حيث اقتضت الحال الغلظة عليهم.
وهذا
الجهاد يدخل فيه الجهاد باليد، والجهاد بالحجة واللسان، فمن بارز منهم بالمحاربة فيجاهد
باليد، واللسان والسيف والبيان.
ومن
كان مذعنا للإسلام بذمة أو عهد، فإنه يجاهد بالحجة والبرهان ويبين له محاسن الإسلام،
ومساوئ الشرك والكفر.
(الجزء الحادي عشر)
1.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ...شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة
عن الانقياد للشرع .
وأمراض
الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد
والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة
من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على
مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.
وكذلك
ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل
الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا
صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد
بفساده. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فالهدى هو العلم بالحق والعمل
به.
والرحمة
هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل،
والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.
وإذا
حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح
والسرور.
2.{وَتَكُونَ
لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ}
....وهذا
لا يحتج به، من عرف الحقائق، وميز بين الأمور، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين.
وأما
من جاء بالحق، فرد قوله بأمثال هذه الأمور، فإنها تدل على عجز موردها، عن الإتيان بما
يرد القول الذي جاء خصمه، لأنه لو كان له حجة لأوردها، ولم يلجأ إلى قوله: قصدك كذا،
أو مرادك كذا، سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه، أم كاذبًا، مع أن موسى
عليه الصلاة والسلام كل من عرف حاله، وما يدعو إليه، عرف أنه ليس له قصد في العلو في
الأرض، وإنما قصده كقصد إخوانه المرسلين، هداية الخلق، وإرشادهم لما فيه نفعهم.
3. {إِنَّ
اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} ...
وهكذا
كل مفسد عمل عملاً، واحتال كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله
روجان في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق.
وأما
المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها،
فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام...
4.{فَمَا
اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} الموجب لاجتماعهم وائتلافهم، ولكن بغى
بعضهم على بعض، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحق، فحصل بينهم من الاختلاف شيء
كثير.
{إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام، وقدرته الشاملة، وهذا هو الداء، الذي يعرض لأهل
الدين الصحيح.
وهو:
أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية، سعى في التحريش بينهم، وإلقاء
العداوة والبغضاء، فحصل من الاختلاف ما هو موجب ذلك، ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض، وعداوة
بعضهم لبعض، ما هو قرة عين اللعين.
وإلا
فإذا كان ربهم واحدًا، ورسولهم واحدًا، ودينهم واحدًا، ومصالحهم العامة متفقة، فلأي
شيء يختلفون اختلافًا يفرق شملهم، ويشتت أمرهم، ويحل رابطتهم ونظامهم، فيفوت من مصالحهم
الدينية والدنيوية ما يفوت، ويموت من دينهم، بسبب ذلك ما يموت؟.
فنسألك
اللهم، لطفًا بعبادك المؤمنين، يجمع شملهم ويرأب صدعهم، ويرد قاصيهم على دانيهم، يا
ذا الجلال والإكرام.
(الجزء الثاني عشر)
1.{وَلَوْلَا
رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}
....
أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد يعلمون بعضها, وقد لا يعلمون شيئا منها،
وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم، أو أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه
بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين، لا بأس بالسعي
فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان...
2.
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ
الْفَسَادِ فِي الْأَرض ...َ}
لما
ذكر تعالى، إهلاك الأمم المكذبة للرسل، وأن أكثرهم منحرفون، حتى أهل الكتب الإلهية،
وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب والاضمحلال، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية
بقايا، من أهل الخير يدعون إلى الهدى، وينهون عن الفساد والردى، فحصل من نفعهم ما بقيت
به الأديان، ولكنهم قليلون جدا ...
وفي
هذا حث لهذه الأمة، أن يكون فيهم بقايا مصلحون، لما أفسد الناس، قائمون بدين الله،
يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى.
وهذه
الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون، وصاحبها يكون, إماما في الدين، إذا جعل عمله
خالصا لرب العالمين.
3. {نَحْنُ
نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص...ِ}
....واعلم
أن الله ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب، ثم ذكر هذه القصة وبسطها،
وذكر ما جرى فيها، فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة، فمن أراد أن يكملها أو يحسنها
بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سند ولا ناقل وأغلبها كذب، فهو مستدرك على
الله، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص، وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا، فإن تضاعيف هذه
السورة قد ملئت في كثير من التفاسير، من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصه
الله تعالى بشيء كثير.
فعلى
العبد أن يفهم عن الله ما قصه، ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ ينقل.
4..
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: بعد السبع الشداد {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ
النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي: فيه تكثر الأمطار والسيول، وتكثر الغلات، وتزيد
على أقواتهم، حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه زيادة على أكلهم، ولعل استدلاله على وجود
هذا العام الخصب، مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك، لأنه فهم من التقدير بالسبع الشداد،
أن العام الذي يليها يزول به شدتها،.ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين
متواليات، إلا بعام مخصب جدا، وإلا لما كان للتقدير فائدة، فلما رجع الرسول إلى الملك
والناس، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا، عجبوا من ذلك، وفرحوا بها أشد الفرح.
(الجزء الثالث عشر)
1.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...}
...ويستدل
بهذه الآية الكريمة على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلامه وكلام رسوله أمور
مطلوبة محبوبة لله لأنه لا يتم معرفة ما أنزل على رسوله إلا بها إلا إذا كان الناس
بحالة لا يحتاجون إليها، وذلك إذا تمرنوا على العربية، ونشأ عليها صغيرهم وصارت طبيعة
لهم فحينئذ قد اكتفوا المؤنة، وصلحوا لأن يتلقوا عن الله وعن رسوله ابتداء كما تلقى
عنهم الصحابة رضي الله عنهم.
2.
{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}.
أي:
أي شيء يمنعنا من التوكل على الله والحال أننا على الحق والهدى، ومن كان على الحق والهدى
فإن هداه يوجب له تمام التوكل، وكذلك ما يعلم من أن الله متكفل بمعونة المهتدي وكفايته،
يدعو إلى ذلك، بخلاف من لم يكن على الحق والهدى، فإنه ليس ضامنا على الله، فإن حاله
مناقضة لحال المتوكل.
وفي
هذا كالإشارة من الرسل عليهم الصلاة والسلام لقومهم بآية عظيمة، وهو أن قومهم ـ في
الغالب ـ لهم القهر والغلبة عليهم، فتحدتهم رسلهم بأنهم متوكلون على الله، في دفع كيدكم
ومكركم، وجازمون بكفايته إياهم، وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على إتلافهم وإطفاء ما
معهم من الحق...
3.
{وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ
لِي}
....واعلم
أن الله ذكر في هذه الآية أنه ليس له سلطان، وقال في آية أخرى {إنما سلطانه على الذين
يتولونه والذين هم به مشركون} فالسلطان الذي نفاه عنه هو سلطان الحجة والدليل، فليس
له حجة أصلا على ما يدعو إليه، وإنما نهاية ذلك أن يقيم لهم من الشبه والتزيينات ما
به يتجرؤون على المعاصي.
وأما
السلطان الذي أثبته فهو التسلط بالإغراء على المعاصي لأوليائه يُؤزّهم إلى المعاصي
أزّا، وهم الذين سلطوه على أنفسهم بموالاته والالتحاق بحزبه، ولهذا ليس له سلطان على
الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
4.
{رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاة} أي: اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة لأن إقامة
الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية فمن أقامها كان مقيما لدينه، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} أي: تحبهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه.
فأجاب
الله دعاءه فأخرج من ذرية إسماعيل محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى دعا ذريته إلى
الدين الإسلامي وإلى ملة أبيهم إبراهيم فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة.
وافترض
الله حج هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم وجعل فيه سرًا عجيبًا جاذبا للقلوب، فهي
تحجه ولا تقضي منه وطرا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم
ولعه وتوقه، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة...
(الجزء الرابع عشر)
1. ( جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ)
خص هذه الأعضاء الثلاثة، لشرفها وفضلها ولأنها مفتاح لكل علم، فلا وصل للعبد علم إلا
من أحد هذه الأبواب الثلاثة وإلا فسائر الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة هو الذي أعطاهم
إياها، وجعل ينميها فيهم شيئا فشيئا إلى أن يصل كل أحد إلى الحالة اللائقة به، وذلك
لأجل أن يشكروا الله، باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله، فمن استعملها
في غير ذلك كانت حجة عليه وقابل النعمة بأقبح المقابلة.
2.
( وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) في أصول الدين وفروعه،
وفي أحكام الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد، فهو مبين فيه أتم تبيين بألفاظ واضحة
ومعان جلية، حتى إنه تعالى يثني فيه الأمور الكبار التي يحتاج القلب لمرورها عليه كل
وقت، وإعادتها في كل ساعة، ويعيدها ويبديها بألفاظ مختلفة وأدلة متنوعة لتستقر في القلوب
فتثمر من الخير والبر بحسب ثبوتها في القلب، وحتى إنه تعالى يجمع في اللفظ القليل الواضح
معاني كثيرة يكون اللفظ لها كالقاعدة والأساس، واعتبر هذا بالآية التي بعد هذه الآية
...
3.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...) . فالعدل الذي أمر الله به
يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة بأن يؤدي العبد
ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل
الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى،
وولاية القضاء ونواب الخليفة، ونواب القاضي. والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه،
وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه...
وقوله:
( وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ) وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر كالشرك بالله
والقتل بغير حق والزنا والسرقة والعجب والكبر واحتقار الخلق وغير ذلك من الفواحش. ويدخل
في المنكر كل ذنب ومعصية متعلق بحق الله تعالى. وبالبغي كل عدوان على الخلق في الدماء
والأموال والأعراض.
فصارت
هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات لم يبق شيء إلا دخل فيها، فهذه قاعدة ترجع
إليها سائر الجزئيات، فكل مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى فهي مما
أمر الله به. وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي فهي مما نهى الله عنه...
4.(
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ...) . أي:
ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع والعمل
الصالح ( بِالْحِكْمَةِ ) أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده. ومن الحكمة
الدعوة بالعلم لا بالجهل والبداءة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما
يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة
الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب. إما بما تشتمل عليه الأوامر من
المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله
وإهانة من لم يقم به. وإما بذكر ما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل وما
أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان [المدعو] يرى أن ما هو عليه حق. أو كان
داعيه إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا
ونقلا. ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود،
وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها بل
يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها...
(الجزء الخامس عشر)
1.{إِنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
* وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}...
فاغتر
بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم،
وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول
الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب
ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما
من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على
ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة
سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن
المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم، فنظر إلى باطن الدنيا،
حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته، حين عمل البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين،
وما أبعد الفرق بين الطائفتين"
2. {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ...}
...
وقد دلت هاتان الآيتان، على عدة فوائد
منها:
الحث على العلم، وعلى المباحثة فيه، لكون الله بعثهم لأجل ذلك.
ومنها:
الأدب فيمن اشتبه عليه العلم، أن يرده إلى عالمه، وأن يقف عند حده.
ومنها:
صحة الوكالة في البيع والشراء، وصحة الشركة في ذلك.
ومنها:
جواز أكل الطيبات، والمطاعم اللذيذة، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله
{فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} وخصوصا
إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك...
ومنها:
الحث على التحرز، والاستخفاء، والبعد عن مواقع الفتن في الدين، واستعمال الكتمان في
ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين.
ومنها:
شدة رغبة هؤلاء الفتية في الدين، وفرارهم من كل فتنة، في دينهم وتركهم أوطانهم في الله.
3.
( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ )... أي: من أهل الكتاب ( أَحَدًا ) وذلك لأن مبنى
كلامهم فيهم على الرجم بالغيب والظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ففيها دليل على المنع
من استفتاء من لا يصلح للفتوى، إما لقصوره في الأمر المستفتى فيه، أو لكونه لا يبالي
بما تكلم به، وليس عنده ورع يحجزه، وإذا نهي عن استفتاء هذا الجنس، فنهيه هو عن الفتوى،
من باب أولى وأحرى. وفي الآية أيضا، دليل على أن الشخص، قد يكون منهيا عن استفتائه
في شيء، دون آخر. فيستفتى فيما هو أهل له، بخلاف غيره، لأن الله لم ينه عن استفتائهم
مطلقا، إنما نهى عن استفتائهم في قصة أصحاب الكهف، وما أشبهها.
4.
( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) غفل عن الله، فعاقبه بأن
أغفله عن ذكره. ( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) أي: صار تبعا لهواه، حيث ما اشتهت نفسه فعله،
وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه، فهو قد اتخذ إلهه هواه، كما قال تعالى:
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم...ٍ
الآية.
( وَكَانَ
أَمْرُهُ ) أي: مصالح دينه ودنياه ( فُرُطًا ) أي: ضائعة معطلة.
فهذا
قد نهى الله عن طاعته، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف
به، ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماما للناس، من امتلأ قلبه بمحبة
الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ
بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به
عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماما..
(الجزء السادس عشر)
1.( جنات عدن الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ
بِالْغَيْبِ ) ...وقوله: ( بِالْغَيْبِ ) يحتمل أن تكون متعلقة ب ( وَعَدَ الرَّحْمَنُ
) فيكون المعنى على هذا، أن الله وعدهم إياها وعدا غائبا، لم يشاهدوه ولم يروه فآمنوا
بها، وصدقوا غيبها، وسعوا لها سعيها، مع أنهم لم يروها، فكيف لو رأوها، لكانوا أشد
لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، وأكثر لها سعيا، ويكون في هذا، مدح له بإيمانهم بالغيب،
الذي هو الإيمان النافع.
ويحتمل أن تكون متعلقة بعباده، أي: الذين عبدوه في
حال غيبهم وعدم رؤيتهم إياه، فهذه عبادتهم ولم يروه، فلو رأوه، لكانوا أشد له عبادة،
وأعظم إنابة، وأكثر حبا، وأجل شوقا.
ويحتمل أيضا، أن المعنى: هذه الجنات التي وعدها الرحمن
عباده، من الأمور التي لا تدركها الأوصاف، ولا يعلمها أحد إلا الله، ففيه من التشويق
لها، والوصف المجمل، ما يهيج النفوس، ويزعج الساكن إلى طلبها، فيكون هذا مثل قوله:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ والمعاني كلها صحيحة ثابتة، ولكن الاحتمال الأول أولى، بدليل قوله: ( إِنَّهُ
كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) لا بد من وقوعه...
2.
(وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) . لما ذكر أنه يمد للظالمين في ضلالهم،
ذكر أنه يزيد المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته، والهدى يشمل العلم النافع، والعمل
الصالح. فكل من سلك طريقا في العلم والإيمان والعمل الصالح زاده الله منه، وسهله عليه
ويسره له، ووهب له أمورا أخر، لا تدخل تحت كسبه، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه
...
3.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا
) . وهذا من عقوبة الكافرين أنهم -لما لم يعتصموا بالله، ولم يتمسكوا بحبل الله، بل
أشركوا به ووالوا أعداءه، من الشياطين- سلطهم عليهم، وقيضهم لهم، فجعلت الشياطين تؤزهم
إلى المعاصي أزا، وتزعجهم إلى الكفر إزعاجا، فيوسوسون لهم، ويوحون إليهم، ويزينون لهم
الباطل، ويقبحون لهم الحق، فيدخل حب الباطل في قلوبهم ويتشربها، فيسعى فيه سعي المحق
في حقه، فينصره بجهده ويحارب عنه، ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل، وهذا كله، جزاء
له على توليه من وليه وتوليه لعدوه، جعل له عليه سلطان، وإلا فلو آمن بالله، وتوكل
عليه، لم يكن له عليه سلطان...
4. ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدَى )... كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات
فكل مخلوق، تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله تعالى
أعطى الحيوان البهيم من العقل، ما يتمكن به على ذلك. وهذا كقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن، الذي لا تقترح العقول
فوق حسنه، وهداها لمصالحها، هو الرب على الحقيقة، فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودا،
وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب، فلو قدر أن الإنسان، أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر،
كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك، ولهذا لما لم يمكن فرعون، أن يعاند هذا الدليل
القاطع، عدل إلى المشاغبة، وحاد عن المقصود فقال لموسى: ( فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى
)...
(الجزء السابع عشر)
1.
(مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
....) ومعنى هذه الآية الكريمة: يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الساعي
في إطفاء دينه، الذي يظن بجهله، أن سعيه سيفيده شيئا، اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب،
وسعيت في كيد الرسول، فإن ذلك لا يذهب غيظك، ولا يشفي كمدك، فليس لك قدرة في ذلك، ولكن
سنشير عليك برأي، تتمكن به من شفاء غيظك، ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنا- ائت
الأمر مع بابه، وارتق إليه بأسبابه، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره، ثم علقه في السماء،
ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر، فسدها وأغلقها واقطعها، فبهذه
الحال تشفي غيظك، فهذا هو الرأي: والمكيدة، وأما ما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك
تشفي بها غيظك، ولو ساعدك من ساعدك من الخلق. وهذه الآية الكريمة، فيها من الوعد والبشارة
بنصر الله لدينه ولرسوله وعباده المؤمنين ما لا يخفى، ومن تأييس الكافرين، الذين يريدون
أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون، أي: وسعوا مهما أمكنهم.
2. (إِنَّ
اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ...) . هذا إخبار ووعد وبشارة من الله، للذين
آمنوا، أن الله يدافع عنهم كل مكروه، ويدفع عنهم كل شر -بسبب إيمانهم- من شر الكفار،
وشر وسوسة الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره، ما
لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف. كل مؤمن له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه،
فمستقل ومستكثر .
3.
( وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) العلي في ذاته، فهو عال على جميع المخلوقات
وفي قدره، فهو كامل الصفات، وفي قهره لجميع المخلوقات، الكبير في ذاته، وفي أسمائه،
وفي صفاته، الذي من عظمته وكبريائه، أن الأرض قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات
بيمينه، ومن كبريائه، أن كرسيه وسع السماوات والأرض، ومن عظمته وكبريائه، أن نواصي
العباد بيده، فلا يتصرفون إلا بمشيئته، ولا يتحركون ويسكنون إلا بإرادته. وحقيقة الكبرياء
التي لا يعلمها إلا هو، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، أنها كل صفة كمال وجلال وكبرياء
وعظمة، فهي ثابتة له، وله من تلك الصفة أجلها وأكملها، ومن كبريائه، أن العبادات كلها،
الصادرة من أهل السماوات والأرض، كلها المقصود منها، تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه،
ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار، كالصلاة وغيرها.
4.
( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي: مشقة وعسر، بل يسره غاية
التيسير، وسهله بغاية السهولة، فأولا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس، لا يثقلها
ولا يؤودها، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف، خفف ما أمر به، إما بإسقاطه،
أو إسقاط بعضه. ويؤخذ من هذه الآية، قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب التيسير
" و " الضرورات تبيح المحظورات"فيدخل في ذلك من الأحكام الفرعية، شيء
كثير معروف في كتب الأحكام.
(الجزء الثامن عشر)
1.{الْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} أي: كل خبيث من الرجال والنساء،
والكلمات والأفعال، مناسب للخبيث، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، وكل طيب من الرجال
والنساء، والكلمات والأفعال، مناسب للطيب، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، فهذه كلمة
عامة وحصر، لا يخرج منه شيء، من أعظم مفرداته، أن الأنبياء ـخصوصا أولي العزم منهم،
خصوصا سيدهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على الإطلاق
لا يناسبهم إلا كل طيب من النساء، فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر قدح في
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو المقصود بهذا الإفك، من قصد المنافقين، فمجرد كونها
زوجة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة من هذا الأمر
القبيح. فكيف وهي هي؟" صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن، حبيبة رسول
رب العالمين، التي لم ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها، ثم صرح بذلك،
بحيث لا يبقى لمبطل مقالا، ولا لشك وشبهة مجالا ...
2.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ ...َ}....أطهر وأطيب، وأنمى لأعمالهم، فإن من حفظ فرجه وبصره، طهر
من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش، وزكت أعماله، بسبب ترك المحرم، الذي تطمع إليه
النفس وتدعو إليه، فمن ترك شيئا لله، عوضه الله خيرا منه، ومن غض بصره عن المحرم، أنار
الله بصيرته، ولأن العبد إذا حفظ فرجه وبصره عن الحرام ومقدماته، مع داعي الشهوة، كان
حفظه لغيره أبلغ، ولهذا سماه الله حفظا، فالشيء المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته
وحفظه، وعمل الأسباب الموجبة لحفظه، لم ينحفظ، كذلك البصر والفرج، إن لم يجتهد العبد
في حفظهما، أوقعاه في بلايا ومحن، وتأمل كيف أمر بحفظ الفرج مطلقا، لأنه لا يباح في
حالة من الأحوال، وأما البصر فقال: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أتى بأداة
" من " الدالة على التبعيض، فإنه يجوز النظر في بعض الأحوال لحاجة، كنظر
الشاهد والعامل والخاطب، ونحو ذلك...
3.
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ....}
....ووجه
هذا المثل الذي ضربه الله، وتطبيقه على حالة المؤمن، ونور الله في قلبه، أن فطرته التي
فطر عليها، بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية، مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع،
فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتعل ذلك النور في قلبه، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة
ذلك المصباح، وهو صافي القلب من سوء القصد، وسوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان،
أضاء إضاءة عظيمة، لصفائه من الكدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية، فيجتمع له
نور الفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم، وصفاء المعرفة، نور على نوره....
4.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ
حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ...}
...وفي هذه الآيات دليل على قاعدة عامة كلية وهي: أن "العرف والعادة مخصص
للألفاظ، كتخصيص اللفظ للفظ" فإن الأصل، أن الإنسان ممنوع من تناول طعام غيره،
مع أن الله أباح الأكل من بيوت هؤلاء، للعرف والعادة، فكل مسألة تتوقف على الإذن من
مالك الشيء، إذا علم إذنه بالقول أو العرف، جاز الإقدام عليه.
وفيها
دليل على أن الأب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره، لأن الله سمى بيته
بيتا للإنسان.
وفيها
دليل على أن المتصرف في بيت الإنسان، كزوجته، وأخته ونحوهما، يجوز لهما الأكل عادة،
وإطعام السائل المعتاد.
وفيها
دليل، على جواز المشاركة في الطعام، سواء أكلوا مجتمعين، أو متفرقين، ولو أفضى ذلك
إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض.
(الجزء التاسع عشر)
1.{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} ....فالوعيد بالخلود لمن فعلها كلها ثابت لا شك فيه
وكذا لمن أشرك بالله، وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة لكونها
إما شرك وإما من أكبر الكبائر.
وأما
خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه لا يتناوله الخلود لأنه قد دلت النصوص القرآنية
والسنة النبوية أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار ولا يخلد فيها مؤمن ولو فعل من المعاصي
ما فعل، ونص تعالى على هذه الثلاثة لأنها من أكبر الكبائر: فالشرك فيه فساد الأديان،
والقتل فيه فساد الأبدان والزنا فيه فساد الأعراض.
2. {وَالَّذِينَ
لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي: لا يحضرون الزور أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون
جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله
والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والاستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر
وفرش الحرير، والصور ونحو ذلك، وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن لا
يقولوه ويفعلوه.
3.
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي: أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية،
درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين وهي درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا
قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يقتدى بأفعالهم، ويطمئن لأقوالهم ويسير أهل الخير
خلفهم فيهدون ويهتدون.
ومن
المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما لا يتم إلا به، وهذه الدرجة ـ درجة الإمامة في
الدين ـ لا تتم إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَاهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فهذا الدعاء
يستلزم من الأعمال والصبر على طاعة الله وعن معصيته وأقداره المؤلمة ومن العلم التام
الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين، خيرًا كثيرًا وعطاء جزيلا وأن يكونوا في أعلى ما
يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.
4.قال
رحمه الله بعد ذكر صفات عباد الرحمن :
فلله
ما أعلى هذه الصفات وأرفع هذه الهمم وأجل هذه المطالب، وأزكى تلك النفوس وأطهر تلك
القلوب وأصفى هؤلاء الصفوة وأتقى هؤلاء السادة"
ولله،
فضل الله عليهم ونعمته ورحمته التي جللتهم، ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل.
ولله،
منة الله على عباده أن بين لهم أوصافهم، ونعت لهم هيئاتهم وبين لهم هممهم، وأوضح لهم
أجورهم، ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم، ويبذلوا جهدهم في ذلك، ويسألوا الذي من عليهم
وأكرمهم الذي فضله في كل زمان ومكان، وفي كل وقت وأوان، أن يهديهم كما هداهم ويتولاهم
بتربيته الخاصة كما تولاهم.
فاللهم
لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك، لا نملك
لأنفسنا نفعا ولا ضرا ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا، فإنا ضعفاء
عاجزون من كل وجه.
نشهد
أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة، فلا نثق يا ربنا إلا
برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة
وصرفت عنا من النقم، فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك فلا خاب من سألك ورجاك.
(الجزء العشرون)
1. قال
السعدي بعد قصة موسى عليه السلام من تفسير سورة القصص : (فصل في ذكر بعض الفوائد
والعبر في هذه القصة العجيبة)...
ومنها:
أن اللّه يقدر على عبده بعض المشاق، لينيله سرورا أعظم من ذلك، أو يدفع عنه شرا أكثر
منه، كما قدر على أم موسى ذلك الحزن الشديد، والهم البليغ، الذي هو وسيلة إلى أن يصل
إليها ابنها، على وجه تطمئن به نفسها، وتقر به عينها، وتزداد به غبطة وسرورا.
2.ومنها:
أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه، إذا لم يترجح عنده أحد القولين، فإنه
يستهدي ربه، ويسأله أن يهديه الصواب من القولين، بعد أن يقصد بقلبه الحق ويبحث عنه،
فإن اللّه لا يخيب مَنْ هذه حاله. كما خرج موسى تلقاء مدين فقال: {عَسَى رَبِّي
أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
3.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لهم الخيرة...}
هذه
الآيات، فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع البريات، وانفراده باختيار
من يختاره ويختصه، من الأشخاص، والأوامر والأزمان والأماكن، وأن أحدا ليس له من الأمر
والاختيار شيء، وأنه تعالى منزه عن كل ما يشركون به، من الشريك، والظهير، والعوين،
والولد، والصاحبة، ونحو ذلك، مما أشرك به المشركون، وأنه العالم بما أكنته الصدور وما
أعلنوه، وأنه وحده المعبود المحمود في الدنيا والآخرة، على ماله من صفات الجلال والجمال،
وعلى ما أسداه إلى خلقه من الإحسان والإفضال.
وأنه
هو الحاكم في الدارين، في الدنيا، بالحكم القدري، الذي أثره جميع ما خلق وذرأ، والحكم
الديني، الذي أثره جميع الشرائع، والأوامر والنواهي.
وفي
الآخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي، ولهذا قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازي
كلا منكم بعمله، من خير وشر.
4. {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
يعني:
يا أيها المحب لربه، المشتاق لقربه ولقائه، المسارع في مرضاته، أبشر بقرب لقاء الحبيب،
فإنه آت، وكل آت إنما هو قريب، فتزود للقائه، وسر نحوه، مستصحبا الرجاء، مؤملا الوصول
إليه، ولكن، ما كل من يَدَّعِي يُعْطَى بدعواه، ولا كل من تمنى يعطى ما تمناه، فإن
اللّه سميع للأصوات، عليم بالنيات، فمن كان صادقا في ذلك أناله ما يرجو، ومن كان كاذبا
لم تنفعه دعواه، وهو العليم بمن يصلح لحبه ومن لا يصلح.
(الجزء الحادي والعشرون)
1.
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ...َ}...
فهذه
الأوقات الخمسة أوقات الصلوات الخمس أمر اللّه عباده بالتسبيح فيها والحمد، ويدخل في
ذلك الواجب منه كالمشتملة عليه الصلوات الخمس، والمستحب كأذكار الصباح والمساء وأدبار
الصلوات وما يقترن بها من النوافل، لأن هذه الأوقات التي اختارها اللّه لأوقات المفروضات
هي أفضل من غيرها فالتسبيح والتحميد فيها والعبادة فيها أفضل من غيرها. بل العبادة
وإن لم تشتمل على قول "سبحان اللّه" فإن الإخلاص فيها تنزيه للّه بالفعل
أن يكون له شريك في العبادة أو أن يستحق أحد من الخلق ما يستحقه من الإخلاص والإنابة.
2.{كُلُّ
حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}...وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم
فرقا كل فريق يتعصب لما معه من حق وباطل، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق
بل الدين واحد والرسول واحد والإله واحد.
وأكثر
الأمور الدينية وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمة، والأخوة الإيمانية قد عقدها
اللّه وربطها أتم ربط، فما بال ذلك كله يُلْغَى ويُبْنَى التفرق والشقاق بين المسلمين
على مسائل خفية أو فروع خلافية يضلل بها بعضهم بعضا، ويتميز بها بعضهم عن بعض؟
فهل
هذا إلا من أكبر نزغات الشيطان وأعظم مقاصده التي كاد بها للمسلمين؟
وهل
السعي في جمع كلمتهم وإزالة ما بينهم من الشقاق المبني على ذلك الأصل الباطل، إلا من
أفضل الجهاد في سبيل اللّه وأفضل الأعمال المقربة إلى الله ...
3.{وَلَقَدْ
آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ...}...
وهذه
الوصايا، التي وصى بها لقمان لابنه، تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل
وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها، إن كانت أمرًا، وإلى تركها إن كانت نهيا.
وهذا
يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة، أنها العلم بالأحكام، وحِكَمِها ومناسباتها، فأمره
بأصل الدين، وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك، وبيَّن له الموجب لتركه، وأمره ببر الوالدين،
وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكره وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال
أوامرهما، ما لم يأمرا بمعصية، ومع ذلك فلا يعقهما، بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما
إذا جاهداه على الشرك. وأمره بمراقبة اللّه، وخوَّفه القدوم عليه، وأنه لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر، إلا أتى بها.
ونهاه
عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر، والمرح، وأمره بالسكون في الحركات
والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك.
وأمره
بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر...
4.
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أقرب ما للإنسان، وأولى
ما له نفسه، فالرسول أولى به من نفسه، لأنه عليه الصلاة والسلام، بذل لهم من النصح،
والشفقة، والرأفة، ما كان به أرحم الخلق، وأرأفهم، فرسول اللّه، أعظم الخلق مِنَّةً
عليهم، من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة
من الشر، إلا على يديه وبسببه.
فلذلك،
وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس، أو مراد أحد من الناس، مع مراد الرسول، أن يقدم مراد
الرسول، وأن لا يعارض قول الرسول، بقول أحد، كائنًا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم
وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه.
(الجزء الثاني والعشرون)
1.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} صبار على المكاره والشدائد,
يتحملها لوجه اللّه, ولا يتسخطها بل يصبر عليها. شكور لنعمة اللّه تعالى يُقِرُّ
بها, ويعترف, ويثني على من أولاها, ويصرفها في طاعته. فهذا إذا سمع بقصتهم,
وما جرى منهم وعليهم, عرف بذلك أن تلك العقوبة, جزاء لكفرهم نعمة اللّه, وأن
من فعل مثلهم, فُعِلَ به كما فعل بهم، وأن شكر اللّه تعالى, حافظ للنعمة, دافع
للنقذمة، وأن رسل اللّه, صادقون فيما أخبروا به، وأن الجزاء حق, كما رأى أنموذجه
في دار الدنيا.
2.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ ...}
فهذه
أنواع التعلقات, التي يتعلق بها المشركون بأندادهم, وأوثانهم, من البشر, والشجر,
وغيرهم, قطعها اللّه وبيَّن بطلانها, تبيينا حاسما لمواد الشرك, قاطعا لأصوله،
لأن المشرك إنما يدعو ويعبد غير اللّه, لما يرجو منه من النفع, فهذا الرجاء,
هو الذي أوجب له الشرك، فإذا كان من يدعوه غير اللّه, لا مالكا للنفع والضر,
ولا شريكا للمالك, ولا عونا وظهيرا للمالك, ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك,
كان هذا الدعاء, وهذه العبادة, ضلالا في العقل, باطلة في الشرع.
بل ينعكس
على المشرك مطلوبه ومقصوده, فإنه يريد منها النفع، فبيَّن اللّه بطلانه وعدمه...
3.{يَا
أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ ....}
يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم،
وأنهم فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه: فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا.
فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها، لما استعدوا
لأي عمل كان. فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله
وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم شيء. فقراء في صرف النقم عنهم،
ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد. فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته
لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد. فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس
التدبير. فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى، فلو
لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم. فقراء إليه، في تعليمهم
ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا.
فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم
يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه،
ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب
هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من
الوالدة بولدها...
4.
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ }...
أي:
يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل، متعناكم في الدنيا، وأدررنا عليكم الأرزاق، وقيضنا
لكم أسباب الراحة، ومددنا لكم في العمر، وتابعنا عليكم الآيات، وأوصلنا إليكم النذر،
وابتليناكم بالسراء والضراء، لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا، فلم ينجع فيكم إنذار، ولم
تفد فيكم موعظة، وأخرنا عنكم العقوبة، حتى إذا انقضت آجالكم، وتمت أعماركم، ورحلتم
عن دار الإمكان، بأشر الحالات، ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء على الأعمال، سألتم
الرجعة؟ هيهات هيهات، فات وقت الإمكان، وغضب عليكم الرحيم الرحمن، واشتد عليكم عذاب
النار، ونسيكم أهل الجنة، فامكثوا فيها خالدين مخلدين، وفي العذاب مهانين...
(الجزء الثالث والعشرون)
1.{كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ...أي: هذه الحكمة
من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر
فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على
الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل
من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.
2.
.قال رحمه الله : فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما
السلام....
ومنها:
أن اللّه تعالى يمدح ويحب القوة في طاعته، قوة القلب والبدن، فإنه يحصل منها من آثار
الطاعة وحسنها وكثرتها، ما لا يحصل مع الوهن وعدم القوة، وأن العبد ينبغي له تعاطي
أسبابها، وعدم الركون إلى الكسل والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس...
3.ومنها:
ما أكرم اللّه به نبيه داود عليه السلام، من حسن الصوت العظيم، الذي جعل اللّه بسببه
الجبال الصم، والطيور البهم، يجاوبنه إذا رجَّع صوته....
4.{اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ....}
يخبر
تعالى عن كتابه الذي نزله أنه {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} على الإطلاق، فأحسن الحديث
كلام اللّه، وأحسن الكتب المنزلة من كلام اللّه هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن، علم
أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه، أجل المعاني، لأنه أحسن الحديث في لفظه
ومعناه، متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف، بوجه من الوجوه. حتى إنه كلما
تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه، حتى في معانيه الغامضة، ما يبهر
الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم، هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع.
وأما
في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فالمراد بها، التي تشتبه على فهوم
كثير من الناس، ولا يزول هذا الاشتباه إلا بردها إلى المحكم، ولهذا قال: {مِنْهُ
آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فجعل التشابه
لبعضه، وهنا جعله كله متشابها، أي: في حسنه، لأنه قال: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}
وهو سور وآيات، والجميع يشبه بعضه بعضا كما ذكرنا.
{مَثَانِيَ}
أي: تثنى فيه القصص والأحكام، والوعد والوعيد، وصفات أهل الخير، وصفات أهل الشر،
وتثنى فيه أسماء اللّه وصفاته، وهذا من جلالته، وحسنه، فإنه تعالى، لما علم احتياج
الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب، المكملة للأخلاق، وأن تلك المعاني للقلوب، بمنزلة
الماء لسقي الأشجار، فكما أن الأشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت، بل ربما تلفت،
وكلما تكرر سقيها حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة، فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر
معاني كلام اللّه تعالى عليه، وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن،
لم يقع منه موقعا، ولم تحصل النتيجة منه، ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم،
اقتداء بما هو تفسير له، فلا تجد فيه الحوالة على موضع من المواضع، بل كل موضع تجد
تفسيره كامل المعنى، غير مراع لما مضى مما يشبهه، وإن كان بعض المواضع يكون أبسط من
بعض وأكثر فائدة، وهكذا ينبغي للقارئ للقرآن، المتدبر لمعانيه، أن لا يدع التدبر في
جميع المواضع منه، فإنه يحصل له بسبب ذلك خير كثير، ونفع غزير...
(الجزء الرابع والعشرون)
1.{قَالُوا
اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ
الْكَافِرِينَ} حيث كادوا هذه المكيدة، وزعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم، لم يقووا،
وبقوا في رقهم وتحت عبوديتهم.
فما
كيدهم إلا في ضلال، حيث لم يتم لهم ما قصدوا، بل أصابهم ضد ما قصدوا، أهلكهم الله وأبادهم
عن آخرهم.
وتدبر
هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب الله تعالى: إذا كان السياق في قصة معينة أو على
شيء معين، وأراد الله أن يحكم على ذلك المعين بحكم، لا يختص به ذكر الحكم، وعلقه على
الوصف العام ليكون أعم، وتندرج فيه الصورة التي سيق الكلام لأجلها، وليندفع الإيهام
باختصاص الحكم بذلك المعين.
فلهذا
لم يقل :وما كيدهم إلا في ضلال. بل قال: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا
فِي ضَلَالٍ}
2.
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ
فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ...}
يخبر
تعالى أن من جادل في آياته ليبطلها بالباطل، بغير بينة من أمره ولا حجة، إن هذا صادر
من كبر في صدورهم على الحق وعلى من جاء به، يريدون الاستعلاء عليه بما معهم من الباطل،
فهذا قصدهم ومرادهم.
ولكن
هذا لا يتم لهم وليسوا ببالغيه، فهذا نص صريح، وبشارة، بأن كل من جادل الحق أنه مغلوب،
وكل من تكبر عليه فهو في نهايته ذليل.
3.
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رسلهم بالبينات فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْم
ِ}... المناقض لدين الرسل.
ومن
المعلوم، أن فرحهم به، يدل على شدة رضاهم به، وتمسكهم، ومعاداة الحق، الذي جاءت به
الرسل، وجعل باطلهم حقًا، وهذا عام لجميع العلوم، التي نوقض بها، ما جاءت به الرسل،
ومن أحقها بالدخول في هذا، علوم الفلسفة، والمنطق اليوناني، الذي رُدَّت به كثير من
آيات القرآن، ونقصت قدره في القلوب، وجعلت أدلته اليقينية القاطعة، أدلة لفظية، لا
تفيد شيئًا من اليقين، ويقدم عليها عقول أهل السفه والباطل، وهذا من أعظم الإلحاد في
آيات الله، والمعارضة لها، والمناقضة، فالله المستعان.
4.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ...} ...بتعليم الجاهلين، ووعظ
الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها،والحث عليها،
وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه، خصوصًا
من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن، والنهي
عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ومن
الدعوة إلى الله، تحبيبه إلى عباده، بذكر تفاصيل نعمه، وسعة جوده، وكمال رحمته، وذكر
أوصاف كماله، ونعوت جلاله.
ومن
الدعوة إلى الله، الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله، والحث على
ذلك، بكل طريق موصل إليه، ومن ذلك، الحث على مكارم الأخلاق، والإحسان إلى عموم الخلق،
ومقابلة المسيء بالإحسان، والأمر بصلة الأرحام، وبر الوالدين.
ومن
ذلك، الوعظ لعموم الناس، في أوقات المواسم، والعوارض، والمصائب، بما يناسب ذلك الحال،
إلى غير ذلك، مما لا تنحصر أفراده، مما تشمله الدعوة إلى الخير كله، والترهيب من جميع
الشر...
(الجزء الخامس والعشرون)
1.{وَأَمْرُهُم}
الديني والدنيوي {شُورَى بَيْنَهُم} أي: لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور
المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال
عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا
لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها، وذلك كالرأي
في الغزو والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيره، وكالبحث في المسائل الدينية
عموما، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل
في هذه الآية.
2.{وَلَمَنْ
صَبَرَ} على ما يناله من أذى الخلق {وَغَفَرَ} لهم، بأن سمح لهم عما يصدر منهم،
{إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: لمن الأمور التي حث الله عليها
وأكدها، وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق
لها إلا أولو العزائم والهمم، وذوو الألباب والبصائر.
فإن
ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل، من أشق شيء عليها، والصبر على الأذى، والصفح عنه،
ومغفرته، ومقابلته بالإحسان، أشق وأشق، ولكنه يسير على من يسره الله عليه، وجاهد نفسه
على الاتصاف به، واستعان الله على ذلك، ثم إذا ذاق العبد حلاوته، ووجد آثاره، تلقاه
برحب الصدر، وسعة الخلق، والتلذذ فيه.
3.
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي: يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي
حكم الله به، وهذه الكتابة والفرقان، الذي يكون في ليلة القدر أحد الكتابات التي تكتب
وتميز فتطابق الكتاب الأول الذي كتب الله به مقادير الخلائق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم
وأحوالهم، ثم إن الله تعالى قد وكل ملائكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه،
ثم وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا وكل به كراما كاتبين يكتبون ويحفظون عليه أعماله، ثم
إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة، وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته
وإتقان حفظه واعتنائه تعالى بخلقه.
4.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وجملة ذلك أن خلقها وتدبيرها
وتسخيرها دال على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته، وما فيها من الإحكام والإتقان وبديع
الصنعة وحسن الخلقة دال على كمال حكمته وعلمه، وما فيها من السعة والعظمة والكثرة دال
على سعة ملكه وسلطانه، وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات دليل على أنه الفعال
لما يريد، وما فيها من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية دليل على سعة رحمته، وشمول
فضله وإحسانه وبديع لطفه وبره، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي لا تنبغي
العبادة والذل والمحبة إلا له وأن رسله صادقون فيما جاءوا به، فهذه أدلة عقلية واضحة
لا تقبل ريبا ولا شكا.
(الجزء السادس والعشرون)
1.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ...}
يخبر
تعالى عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، وهي السكون والطمأنينة، والثبات
عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة، التي تشوش القلوب، وتزعج الألباب، وتضعف النفوس،
فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة،
ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال،
فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه، فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى بين رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم،
وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها،
ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم...
2. {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه... }...وفي هذا، النهي الشديد عن تقديم قول غير
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائنا ما كان ...
3.
{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: من كل صنف من أصناف النبات،
التي تسر ناظرها، وتعجب مبصرها، وتقر عين رامقها، لأكل بني آدم، وأكل بهائمهم ومنافعهم،
وخص من تلك المنافع بالذكر، الجنات المشتملة على الفواكه اللذيذة، من العنب والرمان
والأترج والتفاح، وغير ذلك، من أصناف الفواكه، ومن النخيل الباسقات، أي: الطوال،
التي يطول نفعها، وترتفع إلى السماء، حتى تبلغ مبلغًا، لا يبلغه كثير من الأشجار، فتخرج
من الطلع النضيد، في قنوانها، ما هو رزق للعباد، قوتًا وأدمًا وفاكهة، يأكلون منه ويدخرون،
هم ومواشيهم وكذلك ما يخرج الله بالمطر، وما هو أثره من الأنهار، التي على وجه الأرض،
والتي تحتها من حب الحصيد، أي: من الزرع المحصود، من بر وشعير، وذرة، وأرز، ودخن
وغيره.
فإن
في النظر في هذه الأشياء {تَبْصِرَةً} يتبصر بها، من عمى الجهل، {وَذِكْرَى}
يتذكر بها، ما ينفع في الدين والدنيا، ويتذكر بها ما أخبر الله به، وأخبرت به رسله...
4.{مَنْ
خَشِيَ الرَّحْمَن بالغيب ... } أي: خافه على وجه المعرفة بربه، والرجاء لرحمته ولازم
على خشية الله في حال غيبه أي: مغيبه عن أعين الناس، وهذه هي الخشية الحقيقية، وأما
خشيته في حال نظر الناس وحضورهم، فقد تكون رياء وسمعة، فلا تدل على الخشية، وإنما الخشية
النافعة، خشية الله في الغيب والشهادة ويحتمل أن المراد بخشية الله بالغيب كالمراد
بالإيمان بالغيب وأن هذا مقابل للشهادة حيث يكون الإيمان والخشية ضروريًا لا اختياريًا
حيث يعاين العذاب وتأتي آيات الله وهذا هو الظاهر..
*
فوائد من تفسير السعدي (الجزء السابع والعشرون)
1.{كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} يغني فقيرا، ويجبر كسيرا، ويعطي قوما، ويمنع آخرين، ويميت
ويحيي، ويرفع ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين،
ولا طول مسألة السائلين، فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات،
وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية
العاصين، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه، وهذه الشئون التي أخبر أنه تعالى
كل يوم هو في شأن، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى
يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي،
والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار، حتى إذا تمت هذه الخليقة
وأفناهم الله تعالى وأراد تعالى أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء، ويريهم من عدله وفضله وكثرة
إحسانه، ما به يعرفونه ويوحدونه، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان...
2.قال
رحمه الله : وهاتان الجنتان دون الجنتين الأوليين، كما نص الله على ذلك بقوله:
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} وكما وصف الأوليين بعدة أوصاف لم يصف بها
الأخريين.....
ومجرد
تقديم الأوليين على الأخريين، يدل على فضلهما.
فبهذه
الأوجه يعرف فضل الأوليين على الأخريين، وأنهما معدتان للمقربين من الأنبياء، والصديقين،
وخواص عباد الله الصالحين، وأن الأخريين معدتان لعموم المؤمنين...
3.{فَجَعَلْنَاهُنَّ
أَبْكَارًا} صغارهن وكبارهن..وعموم ذلك، يشمل الحور العين ونساء أهل الدنيا، وأن
هذا الوصف ـ وهو البكارةـ ملازم لهن في جميع الأحوال، كما أن كونهن {عُرُبًا أَتْرَابًا}
ملازم لهن في كل حال، والعروب: هي المرأة المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها، وحسن هيئتها
ودلالها وجمالها ومحبتها، فهي التي إن تكلمت سبت العقول، وود السامع أن كلامها لا
ينقضي، خصوصا عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة والنغمات المطربة، وإن نظر إلى أدبها
وسمتها ودلها ملأت قلب بعلها فرحا وسرورا، وإن برزت من محل إلى آخر، امتلأ ذلك الموضع
منها ريحا طيبا ونورا، ويدخل في ذلك الغنجة عند الجماع.
والأتراب
اللاتي على سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة، التي هي غاية ما يتمنى ونهاية سن الشباب، فنساؤهم
عرب أتراب، متفقات مؤتلفات، راضيات مرضيات، لا يحزن ولا يحزن، بل هن أفراح النفوس،
وقرة العيون، وجلاء الأبصار...
4. {إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ....}...
فهذه
الآيات جمعت أصناف الخلق، المتصدقين، والصديقين، والشهداء، وأصحاب الجحيم، فالمتصدقون
الذين كان جل عملهم الإحسان إلى الخلق، وبذل النفع إليهم بغاية ما يمكنهم، خصوصا بالنفع
بالمال في سبيل الله.
والصديقون
هم الذين كملوا مراتب الإيمان والعمل الصالح، والعلم النافع، واليقين الصادق، والشهداء
هم الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وبذلوا أنفسهم وأموالهم فقتلوا،
وأصحاب الجحيم هم الكفار الذين كذبوا بآيات الله...
(الجزء الثامن والعشرون)
1.{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا} أي: لا تسلطهم علينا بذنوبنا، فيفتنونا، ويمنعونا مما يقدرون عليه من
أمور الإيمان، ويفتنون أيضا بأنفسهم، فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة، ظنوا أنهم على الحق
وأنا على الباطل، فازدادوا كفرا وطغيانا.
2.
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة
والبرهان، ويظهر أهله القائمين به بالسيف والسنان، فأما نفس الدين، فهذا الوصف ملازم
له في كل وقت، فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه وبلسه، وصار له
الظهور والقهر، وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا
بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان،
وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط
الأعداء عليهم، ويعرف هذا، من استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم.
3.
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} هذا عام لجميع المصائب،
في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم، فجميع ما أصاب العباد، فبقضاء الله وقدره،
قد سبق بذلك علم الله تعالى، وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، والشأن
كل الشأن، هل يقوم العبد بالوظيفة التي عليه في هذا المقام، أم لا يقوم بها؟ فإن
قام بها، فله الثواب الجزيل، والأجر الجميل، في الدنيا والآخرة، فإذا آمن أنها من عند
الله، فرضي بذلك، وسلم لأمره، هدى الله قلبه، فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب، كما يجري
لمن لم يهد الله قلبه، بل يرزقه الثبات عند ورودها والقيام بموجب الصبر، فيحصل له بذلك
ثواب عاجل، مع ما يدخر الله له يوم الجزاء من الثواب
4.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتم ...}
يأمر
تعالى بتقواه، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقيد ذلك بالاستطاعة والقدرة.
فهذه
الآية، تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد، أنه يسقط عنه، وأنه إذا قدر على بعض المأمور،
وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، كما قال النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
ويدخل
تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر...
(الجزء التاسع والعشرون)
1.
{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} والرشد: اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم
ودنياهم، {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} فجمعوا بين الإيمان
الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير، وبين التقوى، المتضمنة لترك الشر وجعلوا السبب الداعي
لهم إلى الإيمان وتوابعه، ما علموه من إرشادات القرآن، وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد
واجتناب المضار، فإن ذلك آية عظيمة، وحجة قاطعة، لمن استنار به، واهتدى بهديه، وهذا
الإيمان النافع، المثمر لكل خير، المبني على هداية القرآن، بخلاف إيمان العوائد، والمربى
والإلف ونحو ذلك، فإنه إيمان تقليد تحت خطر الشبهات والعوارض الكثيرة.
2.قال
رحمه الله : وفي هذه السورة-سورة الجن- فوائد كثيرة: ...
ومنها:
اعتناء الله برسوله، وحفظه لما جاء به، فحين ابتدأت بشائر نبوته، والسماء محروسة بالنجوم،
والشياطين قد هربت عن أماكنها، وأزعجت عن مراصدها، وأن الله رحم به الأرض وأهلها رحمة
ما يقدر لها قدر، وأراد بهم ربهم رشدا، فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ومعرفته في الأرض،
ما تبتهج به القلوب، وتفرح به أولو الألباب، وتظهر به شعائر الإسلام، وينقمع به أهل
الأوثان والأصنام.
3.
{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
وليعلم
أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، وما عليها في دار
النعيم المقيم، من اللذات والشهوات، وأن الخير والبر في هذه الدنيا، مادة الخير والبر
في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه، فوا أسفاه على أوقات مضت في الغفلات، وواحسرتاه
على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات، وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها،
ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها ، فلك اللهم الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث،
ولا حول ولا قوة إلا بك.
4.{ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه، وهذا
أعلى ما يكون، فامتثل ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأدب ربه، فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن
بعد هذا، أنصت له، فإذا فرغ قرأه.
وفي
هذه الآية أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ من المسألة التي
شرع فيها، فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب
الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، حتى يفرغ من ذلك الكلام، ليتبين ما
فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهما يتمكن به من الكلام عليه...
(الجزء الثلاثون)
1.
{فذكر إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي: ما دامت الذكرى مقبولة، والموعظة مسموعة،
سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه.
ومفهوم
الآية أنه إن لم تنفع الذكرى، بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو ينقص من الخير، لم
تكن الذكرى مأمورًا بها، بل منهيًا عنها، فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين: منتفعون
وغير منتفعين.
فأما
المنتفعون، فقد ذكرهم بقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} الله تعالى، فإن خشية
الله تعالى، وعلمه بأن سيجازيه على أعماله ، توجب للعبد الانكفاف عن المعاصي والسعي
في الخيرات.
وأما
غير المنتفعين، فذكرهم بقوله: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرَى} وهي النار الموقدة، التي تطلع على الأفئدة.
2.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه
من الشدائد في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد، وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل
يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم.
وإن
لم يفعل، فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد أبد الآباد.
ويحتمل
أن المعنى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وأقوم خلقة، مقدر على التصرف والأعمال
الشديدة، ومع ذلك، فإنه لم يشكر الله على هذه النعمة العظيمة، بل بطر بالعافية
وتجبر على خالقه، فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل...
3. {عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم} فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه
لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، ويسر له أسباب العلم.
فعلمه
القرآن، وعلمه الحكمة، وعلمه بالقلم، الذي به تحفظ به العلوم، وتضبط الحقوق، وتكون
رسلًا للناس تنوب مناب خطابهم، فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم
التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور، ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق، ولكن الإنسان
ـ لجهله وظلمه إذا رأى نفسه غنيًا، طغى وبغى وتجبر عن الهدى، ونسي أن إلى ربه الرجعى،
ولم يخف الجزاء، بل ربما وصلت به الحال أنه يترك الهدى بنفسه، ويدعو غيره إلى تركه...
4.{وَالْعَصْرِ
....}
أقسم
تعالى بالعصر، الذي هو الليل والنهار، محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر،
والخاسر ضد الرابح.
والخسار
مراتب متعددة متفاوتة:
قد يكون
خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم.
وقد
يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف
بأربع صفات:
الإيمان
بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به.
والعمل
الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده
، الواجبة والمستحبة.
والتواصي
بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه
فيه.
والتواصي
بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة.
فبالأمرين
الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة،
يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم.د
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق